حلب | ريثما يسقط مطار «منغ»، المحاصر منذ عام، للمرة العاشرة بعد المئة، لم يجد مقاتلو المعارضة بدّاً من بعض المعارك الجانبية التي امتدت إلى مدينتيْ أعزاز وحلب، التي وإن كانت أغنية «التنورة» قد فجّرت جزءاً منها، بين مقاتلي القرية المتاخمة للمطار ومقاتلي كتائب أخرى، إلا أنّ الأمر ما كان ليتطور لولا خلافات قديمة على «الغنائم» المسروقة من المؤسسات العامة والخاصة في ريف حلب. الاشتباكات شملت أحياء الصاخور والحيدرية وهنانو وطريق الباب. «الهيئة الشرعية»، التي تدين بفكر تنظيم القاعدة، عقدت العزم على محاسبة اللصوص الذين «يسيئون إلى الثورة»، واختارت للمحاسبة كتائب تنحدر من قرية منغ التي يحمل المطار الشهير اسمها، ومحسوبة على جبهة «غرباء الشام» الإسلامية، التي سبق للهيئة أن أطلقت قبل فترة وجيزة قائدها «حسن جزرة»، بعد تسوية على ملفات تتعلق بـ«الغنائم»، إثر شهور من اعتقاله بتهم قتل وخطف وسرقات معامل ومنشآت بمئات الملايين من الليرات السورية.


الضحايا مدنيون وإعدامات ميدانية

الصراع المحتدم بين الميليشيات الإسلامية الذي استخدمت فيه أسلحة متوسطة وثقيلة، أوقع عشرات القتلى والجرحى، معظمهم من المدنيين.
جميل سكر، وهو من أهالي الحيدرية، استنكر القصف بالهاون على الحيّ تمهيداً لاقتحامه للقضاء على «غرباء الشام». قال «نحن نعيش جحيماً منذ شهور، المعارك والقصف لا ينتهيان. يوم بين النظام والثورة، ويوم بين الثوار أنفسهم».
فيما، قالت وداد حساني: «فوجئنا بسقوط قذائف، ثم بالمدرعات وسيارات الدوشكا تطلق النار في الهواء، حياتنا أصبحت موتاً عبثياً في صراع على المال والبضائع المسروقة تحت ستار الدين والثورة والحرية».
وتداول نشطاء معارضون أخباراً عن إعدامات ميدانية لـ25 من عناصر «غرباء الشام»، وعن مقتل العشرات منهم خلال المواجهات، فيما رفضت «الهيئة الشرعية» الاتهامات، مؤكدةً أنّ المطلوبين الذين اعتقلوا سيحاكمون وفقاً للشريعة، وما من إعدامات ميدانية لأحد قبل المحاكمة.
وغصّ المستشفى الميداني في حيّ الصاخور بعشرات الجرحى، ومعظمهم مدنيون، فيما سارع مناصرو «غرباء الشام» إلى الفرار والتخفي خوفاً من القبض عليهم، حيث تبيّن الفارق في القوة بين الطرفين بعد انحياز عدد كبير من الكتائب الأكثر تشدداً أو تسليحاً، إلى الهيئة الشرعية. واصطفت قوى محسوبة على «الإخوان المسلمين» أبرزها لواء التوحيد، لأول مرة مع جبهة النصرة خلف «الهيئة الشرعية»، التي تسعى إلى القضاء على تلك المجموعات التي انضوت خلف «غرباء الشام»، والتي تبعتها كتائب منطقة منغ. هذه الأخيرة سارعت إلى سحب مسلحيها الذين يحاصرون بلدتي نبل والزهراء لنجدة مسلحيهم، الذين أخلوا بعض مقارّهم في حلب خشية تصفيتهم من قبل كتائب «الهيئة الشرعية».
أبو براء المنغي، المقاتل في حيّ الصاخور، أشار إلى أنّ «اتهام مقاتلي قرية منغ بأنهم لصوص، وحصار منازلهم في المنطقة هما اعتداء على الشهداء، نحن لدينا أكثر من 30 كتيبة تحارب النظام وقدمنا عشرات الشهداء، والهيئة الشرعية أصلاً نصفها لصوص فمن سيحاسب من؟». وأضاف «يجب احترام حقوق الإنسان وإرسال طلب استدعاء للمثول أمام الهيئة الشرعية، وليس بإرسال الدبابات وإطلاق النار من الدوشكا لإرهاب أهل منغ»، محذراً من «وقوع فتنة لا يستفيد منها سوى النظام الأسدي الذي يجب أن تتوجه مدرعات كتائب الهيئة الشرعية إلى قصوره لا إلى حيّ الحيدرية».


اصطفافات جديدة

التطور الأبرز في الصراع هو إعلان عبد القادر الصالح، قائد «لواء التوحيد»، والمتهم بنهب مئات المعامل والمنشآت وكنوز الجامع الأموي انحيازه لجبهة النصرة والهيئة الشرعية، التي داهمت مقارّ «غرباء الشام» في عدد من الأحياء واعتقلت عشرات المسلحين الموالين لحسن جزرة، الذي توارى عن الأنظار.
وما لبث «مجلس القضاء الموحد»، الذي سبق أن تعرض للقمع من «الهيئة الشرعية» ولمصادرة مقارّه، ويضم في صفوفه محامين وقضاة منشقين، أن وجّه نداء إلى الأطراف المتصارعين للتحكيم بينهم بإشرافه، حيث أعلنت «غرباء الشام»، وفق بيان لها، «استجابتها للنداء والتزامها المطلق بأيّ قرار يتخذه مجلس القضاء الموحد، وأنها تثني على هذا القرار الحكيم، وتدعو الهيئة الشرعية إلى تقديم مصلحة الأمة، والتعالي على الجراح وتقديم الوثائق التي تدين الأشخاص ليتم بدء العمل فوراً».
بدورها، وزعت كتائب وألوية «منغ» بياناً مصوراً، قالت فيه إنّ ما لديها من مسروقات قامت «باسترجاعها من السارقين على حواجز التفتيش»، وهدّدت بأنها ستسحب مقاتليها من كل سوريا لمحاربة الهيئة الشرعية»، مطالبةً «بالاحتكام إلى مجلس القضاء الموحد في حلب». واتهمت جماعة «غرباء الشام» الهيئة الشرعية بقصف مواقعها وبقتل وجرح عدد من مقاتليها، وبأنّ الأسلحة والذخائر التي استخدمت في الهجمات كانت «تكفي لتحرير مطار منغ».
في المقابل، رأى ناشطون معارضون أنّ خطوة «مجلس القضاء الموحد» هي محاولة للعودة إلى الأضواء، ولو كان على حساب الثورة التي تحاول تطهير نفسها من اللصوص. وقال أحمد كياري، من نشطاء جامعة حلب، إنّ «المجلس يمدّ حبل النجاة للصوص غرباء الشام، لينقذهم بعد تقهقرهم أمام الكتائب المجاهدة. الثورة بدأت بتنظيف البيت الداخلي، وما من قوة ستقف في وجهها».
كذلك قال مصدر مقرب من «الهيئة الشرعية» إنّ مجلس «القضاء الموحد» سكت طويلاً عن السرقات التي يقوم بها حلفاؤه في «غرباء الشام»، وعندما تحركت الهيئة لتطهير الثورة من اللصوص انبرى للدفاع عنهم.
وأضاف «أصبحت معظم الكتائب تفرض أتاوات مالية على أصحاب المعامل والورش والمستودعات. التهمة جاهزة لمن يتلكأ بالدفع أنه شبيح، قلنا لهم هذه طريقة مفضوحة، وتثبت أن كل الشعب شبيحة، نحن نفرض تبرعاً للثورة على هؤلاء مقابل حمايتهم وبرضاهم طبعاً وبعد مناقشتهم».
قرار «الهيئة الشرعية» بتصفية «غرباء الشام» وزعيمها حسن جزرة، جاء بعد قيام الأخير بإطلاق مئات الأعيرة النارية في الهواء ابتهاجاً، وإعلانه بمكبر الصوت، وفق شكاوى مواطنين، أنّ «كل مدني بيعرف معمل بالمدينة الصناعية مو مسروق يجي لعندي بعطيه ورقة يروح يبيعه».
«غرفة الصناعة في حلب»، تؤكد أنّ خسائر القطاع الصناعي فيها بلغت أكثر من 300 مليار ليرة سورية نتيجة ممارسات الجماعات المسلحة، التي تراوح بين السرقة والحرق مروراً بفرض الأتاوات.

تنورة فارس كرم

القصة التي فجّرت الصراع جديرة بأن تذكر لطرافتها، وحسبما ما انتهى إليه تحقيق قامت به كتيبة «البراق» ومعارضون بعد سماع كافة الأطراف، تبيّن أنّ مقاتلاً من «منغ» كان يقود سيارة عليها رشاش «دوشكا» وعلم «جبهة النصرة» على طريق كفر خاشر شمالي حلب، ويسمع من السيارة أغنية المغني اللبناني فارس كرم (اللي بتقصر تنورة)، حيث توقف أمام متجر مما أدى إلى ملاسنة وشتائم مع آخرين وجدوا في الأمر إساءة إلى راية «لا إله إلا الله». وتحولت إلى عراك بالأيدي، فما كان منه سوى أن استدعى مقاتلين آخرين ممن كانوا يحاصرون مطار منغ، وحصل إطلاق نار ثم توجهت القوة المؤلفة من عشرات المسلحين إلى مدينة أعزاز في استعراض للقوة انتهى بتدخل «الوجهاء»، فانسحبوا منها.