الجليل | لم يعد مهماً أن تمر القهوة ماسحة شفتيّ بمذاقها المر اللذيذ، ولا دخان السيجارة الذي يذهب طوعاً في فراغ مختنق، لأكتب نصاً أو قصة. لقد عرفت منذ البداية أن الكاتب الذي يدفن الحقيقة في قلبه يكون قد قبر قصته إلى النهاية.
تبدأ القصة عندما أحسست بأن نفسي رهينة مع أناس سمر البشرة مكبلي الأيادي ومعصوبي الأعين، على أجسادهم الغضة العارية تنزلق حبات العرق بوتيرة متسارعة، وفوهات البنادق الحارة تلتصق بأعناقهم المسدلة كستائر المسرح.
كان ذلك عندما استقللت سرفيساً من رام الله إلى حاجز قلنديا. وقفت في الدور محاصرة بين السياج الحديدي وكاميرات المراقبة، كالسردين المحشور في علبة. على شباك المرور وضعت هويتي الزرقاء الداكنة وانتظرت ريثما تسجل المجندة اسمي وتسمح لي بالمرور، لكنها طلبت إلي دخول غرفة صغيرة لا تتسع لعصفور وطلبت إلي الانتظار ريثما يأتي ضابط الشاباك.
لكنه لمْ يأتِ. وخرجت.
في مدينة عكا كان التحقيق الأول، والثاني، والثالث، ولن أخوض الآن في تفاصيل التحقيق. ليس لأني أنتظر إذن السماح بالنشر، بل لأنني سأكتب القصة كاملة في الوقت المحدد. هكذا إذاً، توالت التحقيقات: من التحقيق الرابع حتّى العاشر كان في سجن الجلمة.
الحياة لا تكذب، والواقع الذي نحيا فيه لا يُشوه: إنهم لا يفسحون المجال لنا لنكون على حقيقتنا.
هل أخطأنا حين أحببنا؟ حين ضمنا بحر وباح لنا من جوفه السحيق المغمور بالرمل والصدف والصخور أنه كان يعمدنا في تلك اللحظة باسم الله الواحد خالق هذا الكون ومحرك الإرادات «الحب»؟
لمْ أكن أعرف ذات يوم أنني سأجر إلى تحقيق يشك في انسانيتي أولاً وقبل كل شيء، وأن هذا الكيان الذي ادعى دوماً ديموقراطية مزيفة، لابساً، من أيام فكرته الأولى وحتّى يومنا هذا، قضية «الهولوكوست»، متاجراً فيها ليثبت حق فئة كانت شريدة دون كينونة ودون قوام مشتتة في بقاع الأرض أن أرضنا، أرض فلسطين، «الأرض التي بلا شعب والشعب الذي بلا أرض» هي حقه في النهاية. ليكن لك ذلك، بالطبع حين نكون جميعاً منفصمين ومشتتين، غير قادرين على استرداد شبر واحد منها، لكنها ليست لك! وتلك هي المفارقة.
يجبر الفلسطيني في «بلد الحُريات» على إثبات إنسانيته ويُسائل عنها أمام القانون والقضاء! باسم ماذا تنتزع مني جواز سفر، أمليته بالأصل عليّ وفرضته رغم إرادتي وأمام عجزي، عجزنا جميعاً، عن حمل شيء آخر، وحين حرمتني رؤية إخوتي في الشتات وبلاد العُرب كلها، باسم ماذا؟ أنت المرفوض أيها الشرطي. وأنت أيضاً يا جهاز الشاباك. كلكم مرفوضون. حُريتي لا أستمدها منكم، ولا أنتزعها منكم، لأنكم بالأصل «ضيوف» ثقلاء فرضوا أنفسهم، وأنا لست لقيطة في هذه الأرض!
لمْ أولد في أوروبا ولا في أمريكا ولمْ آتِ من بلاد الغرب كي أبني جنتي الموعودة. عفواً، أنا هُنا قبلكم.
حين تُجر فتاة في العشرين من العُمر، مثلي، علقت صورة السيد حسن نصر الله على جدار غرفتها، أو وضعت صورته على صفحتها في الفايسبوك، وعبّرت عن أنها متحيزة لحزب ما دون آخر لا يعني ذلك، ولا يكفي أيضاً، كي تشكوا في أنها مجندة في صفوفهم!
والأغرب حين تسألونني عن حبيبي! يا كيان «الحرية». يبدو أننا أغبياء جميعاً حين نُجر إلى حقل الكلام معكم. فأنتم لا تفقهون غير لغة القوة ولا تفهمون غيرها.
لمْ نخطئ حين أحببنا، ولم يكن لنا ذنب حين انتزعوا منا حرية اللقاء. لم يخطئ أبي حين سمّاني «بيروت»، ولم تخطئ أمي حين قالت منذ زمن إنني سأكون أنا ولا أحد غيري. لست مناضلة ولا أتاجر في حقوق أحد. هم الذين أخطأوا حين ألبسوني عباءة غيري. يبدو أن كوابيس اجتياح بيروت التي خرجوا منها مهزومين، وحرب تموز التي قهرتهم، ما زالت تلاحقهم. ويبدو أن فقدانهم لثقتهم بأنفسهم سيجر قادتهم في النهاية إلى اعتبار كل النعاج التي يقتادونها تعمل تحت إمرة حزب الله. لقد أدركت خلال التحقيقات العشرة (التي لمْ تنته بعد) أن «كيان الحرية» لا يريدني هنا. وبالتحديد حين طرح علي ضابط منهم أن أبعُد عن أرضي لعشر سنوات بحجة أني أشكل خطراً على أمن الدولة (نعم؟!). لمْ أخالف القانون، هم الذين خالفوه حين اعتقدوا أنهم عندما يرهبونني سينتزعون مني «اعترافاً» بالعمل لمصلحة «حزب الله»، أو حين تصرفوا بوحشية حين أحضروا الأسير راوي سلطاني من سجن نفحة الصحراوي لأجبر تحت الصدمة على الاعتراف بشيء لمْ أقم به، لكنني أنا التي صدمتهم حين جلست أمام راوي بثقة، وقلت: أنا لمْ أفعل شيئاً!
سيدي نصر الله، أنت أشرف منهم. أقول ذلك بلا خوف من أحد! أحترمك يا سيدي لأنك لا تتاجر بدماء شعبك مثلهم ولا تكذب على مؤيديك مثلهم. لا يعجبهم أن أكون كذلك، لكنني لا أخاف: من أكبر سياسي في هذه الدولة، إلى أصغر جندي يلبس بذلة فضفاضة وينتظر الحافلة في «محطة حيفا المركزية»، يسألني وأنا أمرّ بالصدفة: «من أي اتجاه عكا؟»، بل اشفق عليهم!
أعرف أن فيلم «الجيد، السيئ والقبيح» لا يزال مستمراً. يقلقهم أمر فتاة في العشرين تحب لبنانياً. يقلقهم وجودي هنا، لكنهم لمْ يدركوا بعد أن إنسانيتي تتفوق على وحشيتهم.



تسببت الحواجز الإسرائيلية في الضفة الغربية في وفاة العديد من الحوامل والأطفال الرُّضَّع والمرضى، خلال انتظارهم على المعابر. وقد وصلت نسبة المواليد على الحواجز الاسرائيلية في الضِّفَّة إلى ما يقرب 4.8% من مجمل حالات الولادة خلال الفترة الممتدة من العام 2000 وحتى عام 2009 بحسب دراسة كان قد أعدها القاضي ريتشارد غولدستون.