القاهرة | بعيداً عن التوظيف السياسي لأزمة اختطاف الجنود المصريين في سيناء قبل أسبوع، ثم تحريرهم أمس، فإن انقساماً شهدته الآراء المطالبة بالحلّ، ما بين التعامل الحازم العنيف، وبين أصوات أكثر ميلاً للتعقل، ليس حقناً لدماء الأبرياء في المناطق السكنية التي يختبئ فيها الخاطفون، بل حفاظاً على أرواح الجنود أنفسهم. وامتد هذا الانقسام إلى داخل القوّات المسلحة، التي تُعَدّ الحاكم الفعلي في سيناء؛ فضباط العمليات الذين قدموا إلى مدينة العريش لحلّ هذه الأزمة كانوا يميلون الى تحرير الجنود بالقوة. في حين أن الضباط المقيمين للخدمة في المنطقة الحدودية كانوا يفضلون التفاوض سبيلاً حكيماً لحل الأزمة لمعرفتهم بالآثار الجانبية المدمرة التي قد يحدثها أي تدخل عسكري.
وتُشير مصادر عسكرية لـ«الأخبار» إلى أنّ الخاطفين رفضوا رفضاً قاطعاً التواصل مع وزارة الداخلية أو أي ممثل للشرطة، وذلك بسبب انتهاكات سابقة في حق بدو المنطقة الحدودية تعود إلى عهد حسني مبارك. وامتنعوا كذلك عن التواصل مع قائد مكتب المخابرات العسكرية في العريش بسبب خلافات معه بشأن إدارة الأنفاق، حيث تغض السلطات الطرف عن تهريب السلع غير المدعومة حكومياً عبر الأنفاق مع غزة.
ولم يقبل الخاطفون إلا بالتواصل، عبر وساطة قبلية، مع ضابط يعمل في إدارة المخابرات العسكرية بالقاهرة سبق له الخدمة في رفح قبل الثورة، ولم يكن له عداءات محلية، بخلاف زملائه الذين يخدمون حالياً في مكتبي رفح والعريش. ونجحت جهود الوساطة الشعبية من مشايخ وعواقل القبائل وبعض مشايخ السلفية المعتدلين في فتح قناة التفاوض مع الخاطفين.
وبحسب المصادر نفسها، اتّبع المفاوض العسكري مع الخاطفين طريقة الحرب النفسية الضاغطة لتحسين موقفه التفاوضي؛ فشهدت مدن الشيخ زويد والجورة ورفح تحليقاً منخفضاً للطائرات المروحية، وتعزيزاً عسكرياً في الشوارع والطرق الرئيسية، وأُمهل الخاطفون مهلة قصيرة، مع تحذيرهم بأن القوات قد حصلت على ضوء أخضر سياسي وعسكري بالتعامل العنيف. وقد رفض المفاوض مناقشة مطالب الخاطفين، مستخدماً المنطق العرفي في الأزمات الشبيهة، مطالباً إياهم بإطلاق سراح الجنود أولاً إثباتاً لحسن النية.
وبالفعل، أُطلق سراح الجنود فجر الأربعاء في منطقة بئر لحفن جنوب العريش ليجدوا أنفسهم في العراء سائلين أحد السكان المحليين إيصالهم لأقرب نقطة تفتيش. وقد نُقلوا بطائرة عسكرية من مطار العريش إلى مطار ألماظة العسكري بالقاهرة، حيث أقيم لهم استقبال رسمي بحضور رئيس الجمهورية ووزير الدفاع.
وما إن انتهى المؤتمر الصحافي الرئاسي لتوجيه الشكر للقوات المسلحة وأجهزة المخابرات العامة والعسكرية ووزارة الداخلية، حتى تأججت الأزمة السياسية ثانية. في المرة الأولى، عقب الاختطاف، كان المشهد السياسي مزدحماً بالتباكي على هيبة الدولة، ولوم النظام السياسي الحاكم، وتحميل الرئيس محمد مرسي مسؤولية العفو عن سجناء الجماعات الإسلامية. ومن ناحية أخرى، وُجِّه النقد الشديد إلى القوات المسلحة وشُكِّك في جاهزية عناصرها للدفاع عن أنفسهم، فضلاً عن ضبط الأمن وتأمين الحدود الشرقية. وقد قوبلت هذه الآراء بتحذيرات استباقية من مغبة إراقة الدماء في منطقة عانت القمع الأمني سنين طوالاً.
أما بعد إطلاق سراح المخطوفين، فقد دخلت الأزمة السياسية طوراً جديداً يشهد تشكيكاً في حقيقة عملية الاختطاف وعملية التحرير، واتهام نظام الإخوان الحاكم بتدبير مسرحية يحقق بها إنجازاً لرفع شعبيته. ومن ناحية أخرى، ارتفعت أصوات المطالبين بمعاقبة الخاطفين ومحاسبتهم قانونياً، فيما قابلتها أصوات حقوقية تطالب بضرورة بحث المظالم والمطالب معاً قبل إعمال القانون بنحو انتقائي.
وكشفت مصادر عسكرية لـ«الأخبار»، فضلت عدم ذكر اسمها، أنه عند منتصف ليل ــ الثلاثاء بدأت المرحلة الأخيرة لدور القوات المسلحة، الذي بدأته بنشر كافة قطعها في المناطق المحددة مع القيادات العسكرية والمخابراتية، لتوصيل رسائل القوات المسلحة بعد أن بثت على موقعها الإلكتروني رسالة حملت عنوان «الرسالة الأخيرة»، ذكرت فيها أن حادث الخطف الإرهابي الذي وقع بحق جنود عُزل ونشر الفيديو الخاص بهم ترك أثراً بالغاً في قلب الشعب المصري بأكمله وفي قواته المسلحة التي ازدادت إصراراً على تحريرهم، لكن القيادة العامة للقوات المسلّحة تلتزم حرمة الدم المصري رغم بشاعة العمل الإرهابي، لكن الرد سيكون سريعاً وقاسياً.
وقالت المصادر إن شيوخ القبائل طلبوا من اللواء أحمد وصفي ضرورة النظر في مطالب الإفراج عن بعض المسجونين، بشرط ألا تشتمل قائمة العفو الرئاسي عنهم كل من ثبت تورطه في العمليات التخريبية والإرهابية في مصر. وبناءً عليه، تسلم اللواء وصفي كشف الاسماء من شيوخ القبائل، مؤكداً أنه سيسلّمه للقائد العام للقوات المسلحة، ليقدمه للرئيس، لاتخاذ الإجراءات المناسبة. أضاف شيوخ القبائل مطلباً آخر، هو ضرورة النظر في قرار حظر تملك الأراضي لأبناء سيناء، فأوضح قائد الجيش الثاني الميداني أن القيادة العامة للقوات المسلحة لن تسمح بتوطين الأجانب على أرض مصر.
بعد انتهاء اجتماع وصفي بشيوخ القبائل في حضور قيادات المخابرات العامة والحربية، قال وصفي إنه يجب الإبلاغ عن أن القوات المسلحة ستمنح الخاطفين مهلة أخيرة تبدأ من الساعه الحادية عشرة من مساء الثلاثاء حتى ساعة شروق شمس الأربعاء، بعدها سيدخل تنفيذ الخطة العسكرية حيز التنفيذ الفعلي، ولن يُرحَم أحد مهما تكلف الأمر من خطورة.
وقالت المصادر إن اللواء وصفي أبلغ القيادة العامة للقوات المسلحة نجاح المفاوضات بعد مرور ثلاث ساعات تقريباً من بدء المهلة الأخيرة للخاطفين، حيث تسلمت إدارة المخابرات العامة الجنود نحو الساعة الثانية من صباح الأربعاء، بعد أن تأكد الخاطفون أن القوات المسلحة ستلتزم بشروطها حيال المواجهة العسكرية التي كادت تبدأ فعلياً. واضافت المصادر أن الفريق أول عبد الفتاح السيسي طلب من مرسي ضرورة الموافقة على استمرار تمركز القوات المسلحة هناك بنفس قوتها للبدء في عملية تطهير موسعة واستكمال خطط الحفاظ على سيادة مصر، لكن الرئيس أرجأ النظر في هذا المطلب، إلى حين دراسته فى وقت لاحق، الامر الذي دفع السيسي الى الإصرار على أنّ المهلة الأخيرة قد بدأت بالفعل، ولن ترجع القوات المسلحة عن هدفها في تحرير الجنود، واستعادة هيبة الدولة من خلال فرض سيطرتها كاملة على سيناء.
وأوضحت المصادر أن القوات المسلحة تعاملت بحكمة في قضية تحرير الجنود تجنباً لإزهاق أرواح الأبرياء، لكنها وضعت في اعتبارها أن دكّ المواقع التي تؤوي التكفيريين ستكون المرحلة الأخيرة بعد نفاد كل أساليب التفاوض الذي كانت تجريه المخابرات الحربية والعامة بمساعدة شيوخ سيناء. وأكدت أن تقارير الاستطلاع التي قامت بها المخابرات الحربية كانت «كلمة السر» في نجاح العملية، حيث نجحوا فى تحديد مكان الجنود فى منطقة الجورة، التي كانت مسرح عمليات التنفيذ الفعلي للتعامل العسكري، مع التشديد على سلامة أرواح الجنود.