بعد العصر أو المغرب، أنسب وقت لأطفال قرية شعفاط، شمال القدس المحتلة، من أجل اللعب. تختار غالبيتهم لعبة «الشرطة والحرامية»، وفيها ينقسمون إلى فريقين: الحرامية، الفريق الذي يفضل الجميع أن يكون فيه، لأنه يظهر مهاراتهم في الهرب والاختباء، كي لا يقعوا فريسة للفريق الثاني. فجأة، تتحول هذه اللعبة إلى ما هو أكبر. ما إن يمر القطار «التهويدي»، الذي قسّم شارع القرية الرئيسي وضيق مسلك عبور السيارات فيه، حتى يقرر الأطفال أن يتوحدوا في فريق واحد ضد «الشرطة»، التي تمثل هنا القطار الإسرائيلي الخفيف. كأنه طُبع بمخيلة كل منهم أن القطار يمثل المستوطنين وجنود العدو وقتلة صديقهم الفتى محمد أبو خضير.يعم السكون الشارع، ويتخفى الأطفال باحثين عن حجارة قوية وخفيفة تستطيع فجّ نوافذ القطار لو ألقيت من مسافة بعيدة. يتوزع «اللاعبون» على أماكن مختلفة على طول مسار السكة الحديدية. الجريء منهم يمسك الحجر ويقف على الشارع الرئيسي منتظراً عبور القطار، والباقون يختبئون خلف أسوار البيوت المطلة على السكة. وعند اقترابه تنهمر الحجارة التي تصل بعضها إلى القطار وتخفق أخرى، خاصة أن الرامي أطفال وسواعدهم قد لا توصل حجارتهم. وما إن تعبر المقطورات كلها، ينسحب الفتية من المكان.
يحكي بعض الأطفال أنهم يخرجون من دور الحرامي إلى دور المناضل الذي يقاوم محتله، لأنهم يرفضون أن يمر قطار «التهويد» من شعفاط. دقائق قليلة بعد رشق القطار بالحجارة وتمتلئ القرية بشرطة الاحتلال وقواته الخاصة باحثين عن أولئك الفتية، الذين يعودون بدورهم إلى لعبتهم، ولكن هذه المرة مع شرطة حقيقية تمتلك أسلحة وذخيرة مميتة، و«الغلطة معها تكلف أي طفل حريته أو حياته»، يقول أحد الآباء.
رشق القطار بالحجارة وتحطيم
بنيته التحتية ألحق خسائر جمة وصلت تكاليف إصلاحها إلى ملايين الدولارات

تعتقل الشرطة من تشتبه في أنه شارك في إلقاء الحجارة، أو من قد يساعدها على الإمساك بهم، وتستمر في مراقبة الشارع حتى ساعات الليل. يتجمع جنود العدو في ثلاث نقاط على طول خط السكة الحديدية التي تخترق القرية. وبرغم الاعتقالات الكثيرة التي طاولت أطفال شعفاط، فإن هذا المشهد يتكرر بصورة شبه يومية.
ووصل عدد الذين اعتقلهم الاحتلال من شعفاط منذ بداية هبّة القدس الأخيرة في تشرين الأول الماضي حتى الآن إلى 37 من بينهم 14 قاصراً، وفق إفادة رئيس «لجنة أهالي الأسرى والمحررين» في القدس، أمجد أبو عصب.
رشق القطار بالحجارة وتحطيم بنيته التحتية ليسا جديدين على سكان شعفاط، فهم ألحقوا به خسائر جمة وصلت تكاليف إصلاحها إلى ملايين الدولارات، وذلك إبّان اختطاف المستوطنين ابن القرية محمد أبو خضير في تموز 2014، وحرقه في أحراج قرية عين كارم، غربي القدس. آنذاك حرق المقدسيون السكة الحديدية وحاولوا قص أعمدة الكهرباء المغذية له، بالإضافة إلى تحطيمهم الآلات التي تصدر التذاكر وكذلك محطات الانتظار.
لم ينظر المقدسيون إلى القطار الخفيف، الذي تمتد سكته على مسافة 14 كيلومتراً ابتداءً من مستوطنة «بسغات زئيف» المقامة على أراضي قرية بيت حنينا (شمال القدس) إلى «جبل هرتسل» (غربي القدس)، على أنه مشروع مواصلات عامة يهدف إلى تسهيل حركة سكان المدينة، بل يرون أنه مشروع استيطاني وتهويدي. وإن لم يكن كذلك، فإنهم يسألون: لمَ لمْ توزع محطاته الثلاث والعشرين بالتساوي بين المستوطنات والبلدات العربية، لكن الاحتلال لم يضع سوى ثلاث محطات في البلدات العربية، اثنتان في شعفاط. حتى هذا ليس كرماً، بل لأنها الطريق الوحيدة التي يمكن من خلالها ربط مستوطنة «بسغات زئيف» بمستوطنات غربي القدس.
وتعمل الشركة المشغلة للقطار «سيتس باص» على إنشاء سكة مكملة للمسار الحالي لتصل إلى قرية عين كارم، غربي القدس، فيصير طول السكة 21 كلم، على أن ينتهي العمل بها عام 2020. كذلك تريد إنشاء سكة حديدية تربط بين الجامعة العبرية في جبل المشارف، شرقي القدس، و«جفعات رام» غربيّها، ومن المقرر الانتهاء من إنشائها عام 2025.
أما المبرر الذي تقدمه حكومة العدو لشبكة القطار، فهو تسهيل تنقل المستوطنين في القدس وتخفيف الازدحام وحوادث السير، وأيضاً فإن القطارات عامل جذب للسياح الأجانب إلى المدينة بالإضافة إلى سكان المدن الأخرى، لذلك عملت سلطات العدو على شق طرق وأنفاق جديدة بين القدس وتل أبيب لإنشاء سكة حديدية كبيرة وواسعة.
لكن الأخطر أن مشروع القطار يمهد عملياً لما يسمى «القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل»، لأن هذه السكك تربط بين أطراف المدينة وتقطع أوصال القرى العربية، فضلاً عن أن القدس ستكون المدينة الأولى التي تنشأ فيها مثل هذه الأنواع من القطارات، علماً بأنها المدينة الأكبر لجهة العدد، ففيها 750 ألفاً من المستوطنين والفلسطينيين، ومن المتوقع أن يصل عددهم إلى 950 ألفاً بحلول 2020.
من جهة ثانية، تدفع تصرفات حراس القطار مع المقدسيين إلى رفض وجوده، لأن هؤلاء يتعمدون إذلال الشبان من طريق تفتيشهم بأسلوب مهين، الأمر الذي يؤخرهم عن عملهم ومواعيدهم. وبجانب الضرب المبرح، من الممكن إطلاق النار عليهم كما جرى مع الشاب حاتم صلاح قبل أقل من عام بذريعة الاشتباه، ثم أقرت محكمة الاحتلال بأنه لم يكن هناك داعٍ لإطلاق النار عليه. لكن المقدسيين يضطرون أحياناً إلى استعمال هذا القطار إذا أرادوا الذهاب إلى غربي القدس، لأنه الوسيلة الوحيدة إلى هناك، فيما الحافلات الأخرى تغذي محطات القطار.