ريف القصير | يسكن أبناء الطائفة المرشدية قرية الغسانية منذ سبعينيات القرن الماضي. يتراوح عددهم في القرية بين 9000 و10 آلاف نسمة، في محيط يتميّز بانتمائه إلى طائفة «الأغلبية». هم أبناء طائفة أقلوية، لطالما كانت مثيرة للجدل في الشارع السوري، تعيش بين «أغلبية» تؤيد «الثورة المسلحة»، وللقارئ أن يتخيل حجم الصراع الذي عاشه أبناء القرية المحاصرون بين مطالبتهم من قبل الأقليات الأخرى بتأييد رئيس الجمهورية بشار الأسد، والتزاماتهم تجاه جيرانهم في القرى المجاورة بتأمين متطلبات المقاتلين والسماح باستخدام أراضي القرية ممراً لعبورهم. ولسوء حظ أبناء القرية، فقد خسروا، غالباً، الطرفين المتنازعَين، إذ لم يستطيعوا اتباع سياسة النأي بالنفس طويلاً، إنما تشظّى صوتهم الطائفي الواحد، ما بين حمل السلاح للدفاع عن وجودهم في اللجان الشعبية، معلنين أنهم تحت القانون السوري مواطنون منتمون إلى الدولة السورية، بينما مدّ آخرون منهم مقاتلي المعارضة، سرّاً، بالمؤن الغذائية وآووا عائلات المسلحين باعتبارهم جيران العمر، حين ضيّق الجيش على القرى المتمردة. وبذلك وقع أهل الغسانية بين فكّي كمّاشة، فلم يطالوا العنب ولم يقتلوا الناطور، بل عانوا أزمة مزاودات وتشكيك بانتمائهم الوطني. وكسائر أهل الريف البسطاء الطيبين الذين يكرمون ضيوفهم، استقبلَنا عدد من أهالي القرية في منازلهم، بنيّة أن يرووا لنا معاناة قريتهم على مدار 9 أشهر من الحصار الخانق الذي فرضه مقاتلو المعارضة، ما اضطر أهلها إلى انتظار وصول المؤن إليهم عن طريق بحيرة قطينة التي نشطت حركة القوارب فيها لنقل البضائع اللازمة إلى أهالي القرية. حصارٌ طويل مر على أهالي القرية، فقدوا خلالها عدداً من أبنائهم غرقاً في البحيرة أثناء جلب بعض البضائع، بسبب الأحوال الجوية الصعبة، ولعلّ أشهرهم خبّاز القرية الذي أتى بطحينه عبر البحيرة من أجل صنع الخبز لسكان الغسانية، فغرق مع طحينه. إنما لم يمت أهل القرية جوعاً، إذ إن إرادة الحياة تغلّبت لديهم لإنقاذ من بقي بداخلها. واستمر الخبز ينضج في أفرانها، (البعض يعزو الأمر إلى أن الدولة استمرت في إرسال المؤن إليها عن طريق البحيرة). طوال أشهر طويلة، اعتبر بعض أبناء القرية أن الدولة تخلّت عنهم، وأن من حقهم مهادنة المسلحين، ولا سيّما بعد إطلاق عدد من القذائف على قريتهم من قبل الجيش، بحسب رواية بعض سكان القرية، خلال فترة احتضانهم لعائلات المسلحين. إلا أن آخرين أكّدوا أن الدولة أرسلت إليهم الكثير من المؤن، إنما تخاذل بعض أبناء القرية واستثمر الأمر لإفادة مقاتلي المعارضة الذين لطالما استغلوا المواد التي تباع في أسواق القرية، لكي يتغلبوا على حصارهم من قبل الجيش السوري. تشتهر القرية بالعديد من المحاصيل الزراعية، أبرزها: الجزر. قد يمدّ أحد أهلها إليك ببضع ثمرات من الجزر الطازج، ملحّاً عليك لأخذه، قائلاً: «إنها من محاصيلنا». يفرحك اعتزاز الرجل بجنيه لمحصوله، فالكثير من أهالي القرية سيشكون إليك عدم قدرتهم على جني الثمر بسبب القنص الذي تعانيه الغسانية في الحي الشمالي. إحدى النساء تقول: «محصول كتير مات ع إمو»، أي يبس ولم يتمكن أصحابه من جنيه. التعب بادٍ على وجوه السكان، أسوة بمعظم مناطق سوريا. مدرعات الجيش وآلياته منتشرة على طول القرية وعرضها. القذائف لا تتوقف من قريتي الضبعة والحميدية، بالإضافة إلى القنص الذي يجعل سكان الحي الشمالي يهربون نهاراً إلى بقية أحياء القرية، ويعودون ليلاً خشية القناص اللئيم الذي يتصيدهم تباعاً. الأمر لم يتوقف في السابق عند هذا الحد، بل تعرض عدد من أبنائهم للقتل في القرية الصغيرة الملحقة بالغسانية، وتدعى «الحيدرية». 14 شاباً من الحيدرية يسهرون على سطح منزلهم تم قتلهم جميعاً بدم بارد. تبكي المرأة الخمسينية ذاتها وهي تروي قصتهم، وتقول: «أخي كان بينهم». بعض الشبان تم اختطافهم على خلفية خطف أحد قياديي اللجان الشعبية لضباط منشقين من القرى المحاورة. القيادي يدعى «أبو طلال» وهو من القرية والطائفة ذاتها، إنما تم قتله لاحقاً، ليتّهم البعض أبناء الغسانية، أنفسهم، بقتله.
اسماعيل «الفرّان»، وللمهنة ما لها من قدسية ورمزية لبقاء الحياة، تبحث عنه بين سكان القرية، ستجده حتماً أحد مسؤولي اللجان الشعبية فيها. البندقية لا تفارق كتف الخبّاز السابق، من دون أن تستطيع إخفاء ملامحه البسيطة الطيبة. يقول: «اسأل جيران العمر... كيف يمكن أن يخطفوا أبناءنا ويقتلوهم في وقت آوينا فيه عائلاتهم، وحاربنا لأجل إيوائهم والاهتمام بهم». يروي الرجل كيف ترك أهالي القرى المجاورة ماشيتهم ودواجنهم لدى أهالي الغسانية، وائتمنوهم على أعراضهم، فيما لم يوفّروا فرصة للانقضاض على جيرانهم كلّما استطاعوا. لا يبدو الرجل مغالياً في تأييده للنظام السوري، بل يبدو كأنه يجنح نحو الاعتدال والانضواء تحت سيطرة الدولة السورية. هو يرفض تقديس الأشخاص، إنما يصرّ على الدفاع عن وجوده وبقاء أهل قريته وطائفته. يرفض اسماعيل التسليم بأن جيرانه غدروا بهم وانقلبوا عليهم لأسباب طائفية، ويعزو سر ما جرى إلى وجود مقاتلين أجانب بينهم لا يقدّرون قيمة علاقات الجيرة المبنية منذ عشرات السنين.
أمام ليلى ستتوقف طويلاً. فالشابة القروية البسيطة والحاصلة على شهادة عليا، ستصدمك بالكثير من التناقضات التي يمثّل بعضها أبناء قريتها، وبعضها الآخر تمثّل فيه نفسها فقط، حسب تعبيرها. هي ترى أنها كأقلية طائفية لا يمكن أن تواجه ما سمته «الوحش السلفي»، ما اضطر الكثير من أبناء قريتها إلى مهادنته. ترفض الفتاة أن تقدس الحاكم أو الفرد، ولا سيّما إن استهتر بأرواح الناس ولم يقم بواجباته كما ينبغي. تلمّح الفتاة إلى مزاودات نالها أهالي القرية من أقليات أُخرى، إذ تساءلوا لماذا ينجو أهل الغسانية بعد مرورهم على حواجز الجيش الحُر، في الوقت الذي يختطف فيه عليها أبناء طوائف أُخرى. «هل ستنتخبين الرئيس بشار الأسد ضمن انتخابات 2014؟». بلا تفكير، تجيب الفتاة: «لا». لا تنتظر أن تسألها عمّن يقف مرشّحاً منافساً أمامه، ولا يهمها إن كان الآخر سلفياً أو مدنياً أو علوياً أو سنياً. وهي لا تنادي بالروح بالدم لأجل أحد، ولا تفدي أحداً إلا «دينها». هكذا عبّرت ليلى عن جوهر الأزمة السورية، حيث أصبح الدين والطائفة هما قضية الكثير من السوريين في ثورتهم لإسقاط النظام «الكافر».