دمشق | وحدها عقول الطلاب لا تزال تعمل في الأزمة. إنهم يفكرون في الموت والمستقبل في التوقيت ذاته، هم لا يحضرون الأرواح ويضربون بالرمل، لكن الصراع السياسي في البلاد جعلهم يحسبون مقدار يأسهم وتحمّلهم ولو بالوهم.
مطلع شهر حزيران الحالي، سوف يتوجه آلاف الطلاب والطالبات السوريين إلى مراكز امتحانات الشهادة الثانوية بجميع فروعها. أخبار المدن الأخرى تقول إنّ الامتحانات في وقتها، كذلك الأمر في العاصمة دمشق، فهي تستعد لفتح أبواب مدارسها لطلاب البكالوريا من دون أن تقدم لهم ضمانات جدية للسلامة! مثلهم مثل أي عابر، الحظ هو البوصلة التي ستقودهم، لكنهم مؤمنون «بمستقبل البلد الذي سيكون لهم ولأولادهم»، هكذا تقول فرح إحدى طالبات الشهادة الثانوية، القادمة من مخيم اليرموك إلى منطقة صحنايا في ريف دمشق. كثيرون مثل فرح لا ينتظرون الأوضاع حتى «تُحلّ»، ويعتقدون أن الحياة مستمرة بوجودهم! رغم الضربات التي تتعرض لها أسرهم. «فقدتُ والدي في حمص، وهُجّرنا إلى دمشق منذ عام، كان الحزن يملأ قلب أميّ، ولم أجد سوى إكمال دراستي لأسعد قلبها، فتكفّل اخوتي بالصرف عليّ في معاهد خاصة لأكمل الاستعداد لامتحان البكالوريا»، تروي الطالبة رحمة لـ«الأخبار». لديها وزميلاتها تصوّر أن الموت لن يدركهم الآن على الأقل، «الرعب موجود ولا مشكلة! لا أحد يهمّه مصير الشباب في هذه المرحلة المفصلية من التعليم»، تضيف.
في آخر شهر دوام لطلاب البكالوريا هذا العام مثلاً، التحق بالدوام عدد لا بأس به من مدارس منطقة الزاهرة الأقرب إلى الجنوب الدمشقي المتوتر أمنياً. ثلث العدد الإجمالي واظب على الحضور ومتابعة الحصص الدراسية رغم الإحباط الشديد، حسبما تؤكد، فدوى المرشدة الاجتماعية في إحدى ثانويات دمشق. وتقول «أغلبية الطلاب لا يمتلكون من الأمل سوى القليل. الأنظمة حاسمة في مسألة الدوام، الكلّ يمنّن الآخر بحضوره، كان الشهر الأخير من دوام البكالوريات مهدداً بسبب سوء الأوضاع». تراجع هدف الطلاب وطموحهم في النجاح وهم يحصون عدد الحواجز وساعات الانتظار، معظمهم يبعد مئات الكيلومترات عن مراكزهم الامتحانية، ووزارة التربية السورية اقترحت موضوع التسهيلات لنقل الطلاب إلى مراكز امتحان قريبة من بيوتهم. تخوّف عمار، الذي يعيش في حيّ الميدان، من ذلك، قائلاً: «مركز امتحاني في ركن الدين، وهذا يحتاج صباحاً إلى ساعة ونصف الساعة على الطريق، أنا أعيش في قلق منذ خمسة عشر يوماً لأني لم آخذ رداً على طلب بنقلي لمركز قرب المنطقة التي أسكنها». ربما يعيش آلاف طلاب البكالوريا في حالة ترقب مريرة، فالبعض يشير ساخراً «ما خلصت ولا فشلت»، ويقصدون هنا مصطلح «المؤامرة الكونية»، التي أطلقت على الأزمة السورية، والبعض الآخر يقول: «الأكثر تضرراً نحن الطلاب. إذا كانت بعض المشكلات العائلية في المنزل تشوّش علينا، فما بالك بالتفجيرات المفاجئة والعبوات الناسفة والاشتباكات وقطع الطرقات... كيف سنستمر بالدراسة والنجاح؟». هناك العديد من الطلاب اختصر الطريق على الأزمة وأجّل تقديمه للامتحان حتى العام المقبل، وبقي في مدينته والبعض منهم سافر إلى خارج سوريا.
الحرمان من التقدّم إلى الامتحان كان حاضراً أيضاً. حرمان عائلي وآخر رسمي. بعض الأهالي يرفض العلم في زمن الحرب، «حدّها ستين جهنم... هلق وقت الدراسة!»، يروي عبد الكريم مشيراً إلى ابنه (طالب البكالوريا) الذي يعمل معه في متجر لبيع الأحذية في أحد أسواق دمشق. لم يكن الابن راضياً عن رغبة والده بإلغاء تقدمه للشهادة الثانوية، لكنه مستسلم للخوف كما يبدو. حالة الطالبة عبير لا تختلف كثيراً عن حالة ابن البائع، فهي غابت عن المدرسة عشرين يوماً متتالياً، وحين ظهر قرار فصلها وحرمانها من الامتحانات لم تستطع فعل شيء، «لأن أهلها غير موافقين على المجازفة في النزول إلى المدرسة، كيف سيبررون غيابها؟»، تشير موجهة تربوية في إحدى الثانويات (رفضت ذكر اسمها)، ولا تجد جواباً مقنعاً لتصرف الأهل، لأنهم «على حق» إلى حد ما!
طالبة أخرى هُجّرت من منطقة الحجر الأسود إلى منطقة الكسوة ومدرستها في حي الزاهرة، وتقيم في منزل عمّها، حيث ترافقها ثلاث عائلات، وكل سبعة أشخاص سينامون في غرفة، «لكن المأساة ليست في كل ذلك، إنما باختفاء والدها، وخطفه لتُحرم الفتاة تماماً من أي حق في مغادرة المنزل»، تضيف الموجّهة.
إلى جانب الاستعداد للامتحانات يلازم مشهد الموت أرصدة التفاؤل التي يحاول الطلاب تعزيزها في نفوسهم، فهم لم ينسوا مشهد الدم في كلية هندسة العمارة بدمشق، حيث سقطت القذائف على مقهى الجامعة في شهر آذار الماضي، واستشهد عشرات الطلاب. نسبة كبيرة من الأهل لا ينكرون خوفهم الشديد على أبنائهم، ولكن ما الحل؟ «هل أضع ابني في قفص وأخفيه عن صوت الحرب؟ لا يمكننا عزل الأبناء عما يحدث في بلدنا، يمكننا تنويرهم على ما أعتقد، فأنا أفرّغ معظم وقتي لأكون معهم، كيف إذا كان الأمر يتعلق بمستقبلهم وحياتهم؟»، يشرح وائل الأب لولدين، أحدهما يتقدم حالياً لشهادة التعليم الأساسي (التاسع)، والآخر يستعد لتقديم البكالوريا. ويعتبر أن الحياة بحاجة «لتضحية، والوطن لا يمكن أن يبقى ما لم نبق على أرضه، وشرط البقاء هو الإيمان بمقدرتنا على مقاومة الرعب بالمعرفة». الرجل الذي يقيم في منطقة الدويلعة القريبة من جرمانا، يحرص على التواصل اليومي مع ولديه وتأمين كل ما يلزمهما لقطع هذه «المرحلة الخطرة من الدراسة»، بحسب تعبيره. وعلى اختلاف مستويات الوعي السوري يمكنك أن تجد قصصاً كثيرة عن وجع التأقلم مع الأوضاع التي لا تستقر على شكل معين. الجميع يستكين للجلوس في المنزل، ولو استطاع أن يؤدي كل أعماله عبر الإنترنت لما تردد لحظة. لا أحد يعلم من سيؤمّن على آلاف الطلاب الذين سوف يكونون في توقيت واحد، يختارون مصيرهم على مقاعد الامتحان، بينما ينتظرهم في الخارج امتحان القدر القاسي.
وزارة التربية تحاول أن تقدم تسهيلات نقل مراكز الطلاب إلى مناطقهم، وتحرص عبر محطة «التربوية السورية» على ارشاد طلاب البكالوريا إلى مناهجهم بأساليب مبسطة، ودروس دورية عبر الشاشة، ومحاولات في دفع الطلاب ليتقدموا للامتحانات دون خوف. لكن التراجع في اللحظات الأخيرة يبدو قراراً صعباً ومصيرياً، هكذا حدث مع الطالب عهد، الذي يعيش في منطقة (شبه مستقرة) على أوتوستراد المزة في دمشق. «منذ أيام فقط عدلت عن فكرة التقدم للامتحان، أحد الأصدقاء منذ الصغر توفي منذ أيام قرب بيته في جرمانا بعد أن سقطت مجموعة من القذائف هناك. كنا ندرس معاً ونقوّي بعضنا بالتواجد معاً»، يقول.
صراعات يعيشها طلاب البكالوريا في دمشق، محاولات بائسة في تخطي الأزمة عبر العلم، ولكن ما الفائدة إذا كان العلم على وقع القذائف والتهديد المستمر بحرب كبرى قد تأتي على كل شيء!