أصابت الحرب المجنونة مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والإنسانية في سوريا بضربات قاصمة من الصعب الوقوف بعدها أو تجاوز آثارها وأضرارها في القريب العاجل. ولعل العملية التعليمية والتحصيل العلمي للمراحل الدراسية، الأساسية والجامعية على حد سواء، من أكثر القطاعات والمجالات تضرراً، رغم جميع المحاولات الحثيثة التي تسارع الحكومة السورية وأجهزتها المختلفة للعمل عليها على مدار الساعة، لردم الفجوات العميقة التي أحدثها الدمار الهائل الذي أصاب البنى التحتية والأبنية التعليمية.
وسجلت إحصائيات وزارة التربية السورية تضرّر الأبنية المخصصة للتعليم الأساسي بنحو خاص، بعد أن أصاب دمار جزئي أو كلي حوالى 2400 مدرسة، وحوّلت 1600 مدرسة أخرى إلى ملاجئ للنازحين من مناطق التوتر والمواجهات المسلحة.
رغم هذه الظروف، جاء موعد امتحان الشهادة الثانوية في موعده السنوي المقرر، ليكشف عن حجم الضرر والنكبة الحقيقية التي أصابت مئات الآلاف من الطلاب الذي ينتظرون موعد هذا الامتحان بفارغ الصبر مع عائلاتهم، لكونه الاختبار المصيري الصعب، الذي يحدد لاحقاً مستقبلهم الجامعي والأكاديمي والمهني.
معاناة مضاعفة تعيشها اليوم آلاف العائلات السورية الهاربة من جحيم الموت والحرب إلى لبنان، بالتزامن مع بداية موعد امتحان الشهادة الثانوية. فمن ضمن النازحين، عشرات الآلاف من طلاب مراحل الدراسة المختلفة، بما فيها طلبة الشهادة الثانوية. محاولات حثيثة قام بها الأهالي لإنقاذ مستقبل أبنائهم الدراسي. استجابت بعض الجمعيات الإنسانية التابعة لجهات أهلية ومنظمات إغاثة عالمية مختلفة لنداءات الأهالي المطالبة بتقديم مساعدة تعليمية قبل أي شيء آخر. جزء كبير من المطالب تحقق بالفعل، عندما تطوع عدد من المدرسين السوريين، النازحين أيضاً، في فتح صفوف تعليمية لمختلف المراحل الدراسية الانتقالية والشهادة المتوسطة والثانوية. لكن المشكلة الحقيقية تفاقمت مع اقتراب موعد امتحانات الشهادة الثانوية، كما أكد لنا أبو علاء (52 عاماً) الذي هرب مع عائلته من ريف دمشق، «تابع أبنائي الثلاثة تعليمهم المتعثر في مراحل التعليم الانتقالي. هناك من أرشدنا إلى دار لرعاية المسنين خصّصت إدارتها ساعات من بعض ظهر كل يوم لتدريس النازحين السوريين بالتعاون مع بعض المدرسين السوريين المتطوعين». ويضيف أبو علاء أنّ «المشكلة الحقيقية التي قصمت ظهري هي الامتحانات النهائية والمصيرية في الشهادة الثانوية التي من المفترض أن يقدمها ابني الأكبر في سوريا». لم يكن يتوقع الموظف الحكومي أن تطول مدة إقامته مع عائلته في لبنان، لكنه فقد الأمل بالعودة إلى منزله الذي لحقه دمار كبير في منطقة الحجر الأسود. «فكّرت في الذهاب مع عائلتي إلى مصر، فالحياة هنا في بيروت جحيم لا يطاق، نتيجة الغلاء الفاحش. الذي منعني من اتخاذ هذا القرار امتحانات الشهادة الثانوية التي كان من المستحيل أن أمنع ابني من تقديمها، لكونها الوسيلة الوحيدة التي تخوله حق الحصول على الشهادة لمتابعة دراسته الجامعية. حاولت العودة معه إلى سوريا لتقديم الامتحانات، لكن الظروف الأمنية السيئة حالت دون ذلك. الآن ضاع مستقبل ابني وتبخّر المال الذي كان بحوزتي، ولا أستطيع الوصول إلى مصر بأي شكل من الأشكال»، يقول متحسراً.
مع بداية حديثه، لم يستطع الطالب محمد الآن إخفاء دموعه. البكاء يلازمه اليوم بينما زملاؤه سيقدمون امتحاناتهم في سوريا وينتظرون النتائج والدخول إلى الجامعة. «كنت أحلم بدارسة الهندسة المدنية أو المعمارية. اليوم أحلم بالحصول على الشهادة الثانوية بأي معدل ليس أكثر حتى لا يضيع مستقبلي وتعبي في سنوات الدراسة السابقة»، يقول. حاول محمد البحث مع والده عن مدرسة في بيروت تمنحه فرصة تقديم امتحانات الشهادة الثانوية اللبنانية، لكنه اصطدم بالفارق الكبير في المناهج التعليمية، ومثّل القسط المالي الكبير الواجب عليه دفعه العائق الأكبر أيضاً، ويشير إلى أنّه «هنا في لبنان التعليم ليس مجانياً كما هي الحال في سوريا. كل شيء له ثمن باهظ، حتى التحصيل العلمي، فضلاً عن الحاجز الكبير التي تفرضه اللغة الأجنبية. فجميع المواد تدرس هنا باللغتين الإنكليزية والفرنسية».
امتحانات الشهادة الثانوية والمشكلة الكبيرة التي ترافقها، هي القاسم المشترك الوحيد بين النازحين السوريين، أغنياء كانوا أو فقراء. قاسم علي ديب (47 عاماً)، تاجر دمشقي، انتقل للعيش في شقة مفروشة في منطقة جبيل قبل أشهر، عمل على تأمين أساتذة خصوصيين في جميع المواد الدراسية لابنه طالب الشهادة الثانوية، فهو يريد «توفير جميع شروط النجاح لابني في الاختبار الصعب الذي سيحدد مصيره الأكاديمي والجامعي». ويتابع شرح معاناته بأنه على استعداد كامل لدفع أي مبلغ كان حتى يتمكن ابنه المدلل من تقديم امتحاناته هنا في بيروت.
تساؤلات عدة يطرحها ديب، فكيف «يستطيع طالب الشهادة الثانوية تقديم امتحانه والتركيز في إجاباته وهو يعيش في حالة خطر كاملة؟»، و«لماذا لا تتعاون وزارة التربية مع السفارات السورية في البلدان التي يوجد فيها أعداد كبيرة من النازحين السوريين، لوضع خطة معينة وشروط رقابية لتأمين تقديم امتحانات الشهادة الثانوية؟».
وضع الأب أمام خيارين متماثلين في الصعوبة والمرارة. الأول أن يؤجل مسألة تقديم ابنه لامتحانات الشهادة الثانوية هذا العام، والآخر العودة إلى سوريا كي يقدم ابنه الامتحانات المقررة قبل أن يفوت الأوان، لكن «للأسف اخترت أن نؤجل موضوع الامتحانات إلى السنة المقبلة. الشهادة الثانوية يمكن تعويضها بطريقة ما، لكن حياتنا ليست رخيصة مطلقاً. سأعمل على تسجيل ابني في أفضل المدارس اللبنانية العام المقبل. والله لا يسامح يلّي وصّلنا لهون مين ما كان يكون».