دُعينا، صديقي ورفيقي الدكتور إبراهيم علّوش وأنا، إلى لقاء الرئيس السوري بشَّار الأسد. فغادرنا عمَّان بالطائرة إلى دمشق. استغرقت الرحلة 37 دقيقة، وفي مطار دمشق لم يكن ثمَّة قادمون سوى العدد القليل من الركّاب الذين ترافقنا معهم على متن الطائرة المنطلقة من عمَّانوعندما تحرَّكت بنا السيَّارة التي أقلَّتنا من المطار إلى الفندق الذي تقرَّرتْ إقامتنا فيه، كنّا نشعر بقدرٍ غير يسير من القلق؛ فهذا الطريق كان معروفاً، لمدَّة طويلة، بأنَّه أحد أكثر المناطق سخونةً في محيط العاصمة السوريَّة، وقد تمَّت إعادة السيطرة عليه قبل أيَّام قليلة من زيارتنا لدمشق، لكنَّنا لم نكن متأكِّدين من أنَّه أصبح خارج دائرة الخطر بالكامل. لم يكن عدد السيارات التي تسلكه، في القسم الأوَّل منه المحاذي للمطار، كبيراً؛ وهذا يمكن تفسيره بقلَّة عدد مستخدمي المطار للسفر؛ ذهاباً أو إياباً.

ثمَّ، فجأة، وجدنا أنفسنا وسط زحمة سيرٍ مزعجة، تنفرج أحياناً وتشتدّ أحياناً، إلى أنْ دخلنا دمشق. هناك وجدنا أنفسنا وسط الصخب والضجيج المألوفين لحاضرة الأمويّين.
عندما وصلنا الفندق، أخذنا قسطاً قليلاً من الراحة، ثمَّ خرجنا إلى الشارع، ورحنا نتجوَّل، سيراً على الأقدام، في منطقة وسط المدينة؛ تجوّلنا، في البداية، في شارعي الحمرا والصالحيَّة؛ كانت محالّهما التجاريَّة مفتوحة، وقد انتشر الباعة الجوَّالون على الأرصفة، وراح كثيرٌ من الناس يتجوَّلون هناك. بعضهم يتسوَّقون، وبعضهم يسيرون فحسب. وفي الحديقة الواقعة في نهاية الصالحيَّة، التي ينتصب فيها تمثال كبير للرئيس الراحل حافظ الأسد، امتلأت المقاهي الصيفيَّة المنتشرة هناك بالمرتادين؛ رجالاً ونساءً، شُبّاناً وفتياتٍ، وأطفالاً. ومن حين إلى حين، كانت تُسمع أصوات انفجارات القذائف في بعض المناطق المحاذية لدمشق، لكن لا أحد يلتفت لها أو يقطع ما هو بصدده بسببها. قلتُ لنفسي: لو تحدَّثتُ عن هذا المشهد، في الأردن، للناس الذين يعتمدون في معرفتهم بما يجري في سوريا على الفضائيات النفطية والغربية، لما صدَّقني أحد منهم. ومن هناك، مضيناً، سيراً على الأقدام أيضاً، باتجاه ساحة المرجة، وتجوَّلنا فيها بعض الوقت، فوجدنا حالها كحال الصالحيَّة والحمرا. وبعد ذلك، عدنا أدراجنا إلى الفندق. وفي غرفتي، تصفَّحتُ بعض المواقع الإلكترونية الأردنية، ففوجئتُ بأحدها يعرض صوراً لتظاهرة حاشدة لسوريّين معارضين في الصالحيَّة (قبل قليل، كما أوضح الموقع؛ أي في الوقت، نفسه، الذي كنّا نتجوَّل خلاله في المنطقة)، لكنَّنا، لسببٍ أجهله، لم نرَ تلك التظاهرة.


في القصر الجمهوري

في صباح اليوم التالي، جاء ضابط من القصر الجمهوريّ بلباسٍ مدنيّ، قدَّم نفسه لنا قائلاً: أنا العقيد فلان. وأخذنا، للتوّ، للقاء الرئيس الأسد. عند باب مبنى الرئاسة، ترجّلنا من السيارة وقادنا شخصٌ آخر أنيق داخل المبنى من دون أنْ يفتِّشنا أحد. وما إنْ اقتربنا من باب مكتب الرئيس، حتَّى فوجئنا به يجتازه ويلاقينا خارجه. وفكّرتُ في أنّه ربّما كان الوحيد من بين الحكّام العرب الذي يفعل ذلك مع زوّارٍ غير رسميّين. الآخرون، يتركون زوَّارهم في غرف انتظارٍ ملحقة بمكاتبهم مُدَدَاً من الوقت، قد تطول أو تقصر، قبل أنْ يتفضَّلوا بلقائهم. صافحنا الرئيس بحرارة ودعانا إلى الدخول والجلوس على كنباتٍ خفيضة متقاربة في إحدى زوايا مكتبه. أغلق موظّفو الرئاسة الباب علينا، وبقينا وحدنا مع الرئيس، الذي بدأ الحديث بكلمات الترحيب والمجاملة المعتادة والسؤال عن الأهل في الأردن... إلخ. وما لبث أن قال: لا أريد أن أطيل عليكم؛ أريد أن أسمع منكم أوّلاً.
دار بيننا وبينه، بعد ذلك، حوارٌ حقيقيٌ طويل، وعميق، وصريح، ورفاقيّ، كما سمّيته في الخبر الصغير الذي وضعته، لاحقاً، على صفحتي في موقع التواصل الاجتماعيّ. وتحدَّثنا في كلّ شيء تقريباً: الحرب على سوريا، الأصدقاء والأعداء، حركة التحرّر العربية، الليبرالية الجديدة التي تورَّطتْ بها سوريا فترةً من الزمن، العلمانية والتنوير، أهميَّة القطاع العام للدولة السورية، الديموقراطيَّة، الاشتراكيَّة، المقاومة... إلخ.


«لن نتخلى عن المقاومة وأراضينا المحتلّة»

وبينما نحن نتبادل الحديث، كنّا نسمع، من حينٍ لحين، أصوات القذائف المتفجِّرة في المناطق المحاذية لدمشق. ففكَّرتُ في الأوقات الصعبة التي لا بدَّ أن يكون قد مرَّ بها هذا الرجل الاستثنائي الذي يجري تداول اسمه يومياً، آلاف المرَّات، منذ سنتين، في مختلف وسائل الإعلام العالميّ؛ وخصوصاً أنَّ المسلَّحين كانوا قد حاولوا، في بعض مراحل الصراع، الوصول إلى أماكن لا تبعد كثيراً عن قلب دمشق؛ كذلك إنَّ الماكينة الإعلامية الإمبريالية الجبَّارة والعربية التابعة، والأموال النفطية الخليجية الهائلة، والأجهزة الاستخبارية الدولية المتنفِّذة، قد حاولت، بلا كلل، التأثير على معنوياته وتشكيكه بكلّ شيء حوله وبكلّ شخص قريب منه أو ضمن المحيطين به، وبكلّ مؤسَّسة من مؤسَّسات دولته؛ بل، أيضاً، بمستقبله الشخصيّ ومصيره هو نفسه. وتذكَّرتُ المُهل المتتالية التي كانوا يحدِّدونها لسقوط نظامه، وعروض اللجوء التي كانوا يروِّجون في أجهزة إعلامهم أنَّهم قدَّموها له، ومحاولات الشراء الكثيرة، بمبالغ خيالية، التي كانوا يعرضونها على كلّ مسؤول، في الدولة السوريَّة، وكلّ فنَّان أو كاتب أو مثقَّف بارز؛ في مقابل الترهيب من المصير المأسويّ الذي سيلقاه كلّ واحد من هؤلاء، عند سقوط النظام الوشيك (حسب زعمهم)، إذا هو استمرّ على ولائه له. الأمر الذي فرض على الكثيرين من هؤلاء عدم الردّ على أيّ اتِّصال هاتفي من رقمٍ لا يعرفونه؛ وخصوصاً إذا كان رقماً دولياً. لكن، ها هو هذا الرجل، الذي شُوِّهت صورته إلى أبعد حدّ، يجلس، الآن، على مقربة سنتمترات قليلة منِّي. وبخلفيَّتي الأدبية القصصية، وتخصّصي الجامعيّ في علم النفس، كان جانب من تفكيري مشغولاً، بنحو تلقائيّ، بالنظر إلى ما وراء ظاهر شخصيَّة محدِّثي؛ فتسرَّب إلى نفسي إحساسٌ قويّ بأنَّه رابط الجأش، وواثق من نفسه ومن قدرته على السير بسفينة بلاده إلى برّ الأمان، ويراهن على المستقبل إلى أبعد حدّ؛ فما زال، حتَّى بعد سنتين من هذا الصراع الدمويّ المرير، يقول إنَّ سوريا لن تتخلَّى عن ثوابتها الوطنية والقومية وهويَّتها العروبية والتزامها الوحدويّ؛ لن تتوقَّف عن دعم المقاومة، ولن تفرِّط بشبرٍ من أراضيها المحتلَّة، ولن تتنازل عن استقلالها. وهو، بالمقابل، يدرك حجم النجاح الذي حقَّقته جهود أعدائه في تضليل الكثيرين وتشويه صورته؛ لكنَّه، مع ذلك، يقول إنَّه لا يأبه لكلّ هذا الهجوم الشخصيّ الظالم الذي يُشنّ عليه بكثافة؛ فالمهمّ بالنسبة إليه هو سوريا، وهو مستعدّ لكلّ أشكال التضحية كي لا تقع سوريا في قبضة الأميركيّين والصهاينة وأتباعهم الخليجيّين والتكفيريّين. وليقولوا، بعد ذلك، عنه ما يقولون.


21 مليار دولار من البنك الدولي لإعادة الإعمار

عندما التقينا بالرئيس الأسد، كان الجيش السوريّ قد أحرز نجاحاتٍ ميدانيَّة مهمّة ويضرب طوقاً محكماً حول مدينة القصير التي كانت تمثِّل العصب المركزيّ (والرئة) للجماعات المسلَّحة. وكان واضحاً أنَّه يشعر، الآن، بأنَّ سوريا في طريقها إلى تجاوز عنق الزجاجة التي حُشِرَتْ فيها خلال السنتين الماضيتين، وأنَّ هذه اللعبة اللئيمة التي لعبها الغرب وأتباعه معها، أصبحتْ في خواتيمها. فالدول الغربية، بخلاف ما تُظهِر، أصبحت، الآن، تتسابق لتقدِّم له، من تحت الطاولة، عروضاً مغرية تسعى من خلالها إلى ضمان حصص شركاتها في مقاولات إعادة الإعمار واستخراج النفط والغاز اللذين اكتُشِفَتْ احتياطات هائلة منهما في الساحل السوريّ. بل إنَّ البنك الدوليّ نفسه - وهو لا يتحرَّك من دون مشيئة الولايات المتَّحدة وإذنها - قدَّم له عرضاً «سخيّاً» لمنحه قرضاً قيمته 21 مليار دولار، بشروط ميسَّرة، مبدياً (البنك) رغبةً ملحَّةً في تمويل مشاريع إعادة الإعمار. وكلّ ذلك من طريق عرَّاب الخصخصة الشهير في سوريا، عبد الله الدردريّ. لكنَّه رفض هذا العرض جملةً وتفصيلاً. واتَّخذ قراراته النهائيَّة بالنسبة إلى عروض إعادة الإعمار كلّها.
وما يشغل تفكير الرئيس الأسد، الآن، أكثر من سواه، كما قال، هو التعامل مع مرحلة ما بعد الحرب؛ وخصوصاً، كيفيَّة التعامل مع هذا الدمار الواسع الذي حلّ بمناطق مختلفة من البلاد، وكيفيَّة مداواة جراح الناس الذين فقدوا أحبَّاءهم في الحرب، وبعضهم تشرَّد، وبعضهم الآخر خسر بيته أو مصدر رزقه أو ثروته... إلخ. لكنَّ قلقه الأكبر يتعلَّق بنوعٍ آخر من الدمار حلَّ بسوريا وبالبلاد العربية الأخرى، هو استشراء داء الطائفية والمذهبية على نحوٍ مَرَضيّ؛ الأمر الذي يمثِّل خطراً داهماً على وجود الأمّة وكيانها ومستقبلها. وبالتالي، يجب العمل بجدّية لمواجهته واجتثاثه. كما أشار الرئيس.


مرحلة اللبرلة سببها الضغوط الخارجية

تجدر الإشارة، هنا، إلى أنَّ الرجل يدرك جيِّداً الأسباب الموضوعية الأساسية لما جرى في سوريا؛ ومن ذلك، مثلاً، أنَّ السياسات الاقتصادية الليبرالية، التي قال إنَّ سوريا اضطُرَّتْ إلى السير فيها كتنازل أمام الضغوط الهائلة التي مورستْ عليها عقب افتعال قضية الحريري ضدَّها (المقصود اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري)، أضرَّتْ بسوريا جدّاً، وخلقتْ بؤراً عديدة للفقر في الأرياف سرعان ما أصبحتْ حواضن للتطرّف والجريمة. وقال إنَّه كبح هذا الاتِّجاه (أعني اتِّجاه الليبراليَّة الجديدة)، وأكَّد دور القطاع العامّ في صمود الدولة وتماسكها، كاشفاً عن أنَّ المجموعات المسلّحة كانت، لهذا السبب، تستهدف معامل القطاع العام، بالنهب والتدمير، بنحو ممنهج وكثيف.
وإذا كانت بعض الفضائيات السورية قد ظلَّتْ، طوال السنتين الماضيتين، تردِّد عبارة «لن ننسى»، فإنَّ الرئيس الأسد، يتذكَّر جيّداً تفاصيل مساهمة حكّام الخليج في الحرب على سوريا التي خاضوها بحماسة وجاهلية قبائل داحس والغبراء. وهو يعزي بعض أسباب شخصنة الصراع التي مارسوها ضدّه، إلى كونهم يعرفون جيِّداً - كما قال - أنَّه لا يكنّ لهم الكثير من التقدير.
الجامعة العربية لا تعني السوريين وأردوغان عاطفي «إخواني»
أمَّا جامعة الدول العربية، التي أصبحت خلال السنتين الماضيتين مطيَّة لدول الخليج تستخدمها كيفما تشاء ضدّ سوريا، فقال إنَّها لم تعد تعني الكثير للسوريّين، وإنَّهم يعوِّلون، بدلاً من ذلك، على قيام رابطة للشعوب العربيَّة تحشد طاقاتها وتؤطِّر تضامنها وتدافع عن مصالحها الحقيقية، وإنَّهم سيعملون في المرحلة المقبلة وفق هذه الرؤية.
أمَّا رئيس الوزراء التركيّ، رجب طيِّب أردوغان، فقال إنَّه شخصٌ عاطفيّ، وقد كان يبدي محبَّة خاصَّة له (أي للرئيس الأسد) ولأولاده وأسرته؛ لكنّه متحيِّز لـ«الإخوان المسلمين»، ومصلحة «الإخوان» تعلو، عنده، على مشاعر الصداقة التي كان يكنّها له، بل إنَّها تعلو، أيضاً، على مصالح تركيا وسوريا معاً. وسرد أمثلة تفصيلية عديدة للنزوع «الإخواني» القوي لدى أردوغان. وحمَّل مسؤوليَّة سياساته الخاطئة والمتخبِّطة لوزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو.
أمَّا الولايات المتَّحدة والغرب، فهم يريدون تركيع سوريا وإخضاعها لشروطهم، ولا شيء يهمّهم أكثر من مصلحة «إسرائيل»، وقال إنَّه لو كان قد وافق على مطالب كولن باول التي جاء بها إليه بُعيد احتلال الأميركيّين للعراق، وفي مقدّمتها طرد فصائل المقاومة الفلسطينية من سوريا، لما أظهروا كلَّ هذا العداء له ولبلاده.
أمَّا «إسرائيل» التي راهنت بقوّة خلال الأزمة الحالية على المجموعات المسلَّحة واعتدتْ على سوريا لمصلحتها، فقال إنَّها ارتكبتْ خطأً كبيراً في رهانها، ذاك، وإنَّ الردّ على اعتداءاتها سيكون استراتيجيّاً وليس آنيّاً. وفي ذلك اليوم، نفسه، كان الإعلام قد تناقل خبراً يقول إنَّ الجيش السوري دمَّر سيارة عسكرية «إسرائيلية» بمن فيها لمحاولتها العبور إلى قرية حدودية في الجولان يسيطر عليها المسلّحون. وصدر بيانٌ حازمٌ عن القيادة العامّة للجيش السوري يشير إلى هذا الحادث الخطير ويقول إنّ سوريا لن تتهاون مع أيّ محاولة «إسرائيلية» لاختراق حدودها وتجاوز سيادتها.


فتح جبهة الجولان جدّي

وفي ما يتعلَّق بإعلان فتح جبهة الجولان؛ قال الرئيس الأسد إنَّه أمرٌ جدِّيٌّ تماماً؛ لكنَّهم لا يفكِّرون في مقاومة شكلية استعراضية تطلِق، من حينٍ إلى حين، بعض القذائف البدائية العشوائية على العدوّ، وتترك زمام المبادرة والفعل الحقيقيّ له، بل مقاومة مدروسة، ومعدّ لها جيّداً، ومتواصلة، ومؤثِّرة، وتحرص دائماً على امتلاك زمام المبادرة، وترسم ميدان الصراع على نحوٍ يخدم كفاحها ويضرّ بعدوِّها... كما هو شأن المقاومة التي خاضها حزب الله في جنوب لبنان.


ثقة تامة بالصديق الروسي

في المقابل، لا ينسى الرئيس الأسد أصدقاءه؛ حيث قال إنَّه منح حقّ استخراج نفط الساحل السوري لشركةٍ روسية، مؤكِّداً ثقته التامَّة بأنَّ الروس لن يغيِّروا موقفهم من بلاده؛ لأنَّهم في الحقيقة يدافعون عن أمنهم الاستراتيجي ومصالحهم الوطنيَّة اللذين كانا سيتعرَّضان للخطر لو تمكَّن الغرب وأتباعه من وضع يدهم على سوريا. وأوضح أنَّ الروس لم يحاولوا، مع ذلك، في أيّ مرحلة من مراحل الصراع، إملاء أيّ موقف على بلاده، وأنَّهم حتى عندما كانت تتشكَّل لديهم اقتراحات مختلفة بشأن بعض جوانب الصراع، كانوا يكتفون بإبداء رأيهم فقط، ويتركون لسوريا أن تتصرّف في ضوء ما تراه مناسباً. وبالنسبة إلى إعادة الإعمار، قال إنَّ الشركات الصينيَّة جاهزة للقيام بدورها في هذا المجال، وإنَّهم تفاهموا معها على كلّ شيء بهذا الشأن.

لا نتائج باهرة لـ«جنيف 2»

والآن، فرضتْ حقائق الميدان نفسها على الجميع؛ وهذا قاد إلى «جنيف 2»؛ لكن لم يبدُ على الرئيس الأسد أنَّه متفائل كثيراً بإمكانيَّة أنْ يحقِّق «جنيف 2» نتائج باهرة؛ لأنَّ مَنْ سيجلسون في الطرف الآخر من طاولة المفاوضات لا يستطيعون أنْ يقرِّروا بالنيابة عن المجموعات المسلَّحة الموجودة على الأرض؛ ولأنَّ أطراف المعارضة، في الخارج والداخل، بينهم خلافات كبيرة وعديدة. وفي ضوء هذا الواقع، فإنَّ كلّ ما يريده السوريّون والروس، من هذا المسار، هو عدم إغلاق باب المفاوضات والحوار؛ كذلك فإنَّهم حقَّقوا، سلفاً، عدداً من النقاط الإيجابية المهمّة التي تحصَّلتْ من مجرَّد الاتِّفاق بين الروس والأميركيّين على عقد المؤتمر؛ إذ في مقابل كلّ المحاولات التي بذلتها دول الخليج، في مؤتمر الدوحة الأخير وفي الجمعية العامّة لهيئة الأمم المتّحدة، لسرقة حق تمثيل سوريا ومنحه للجماعات المسلّحة التابعة لها، وُجّهت الدعوة إلى «النظام السوريّ» (استخدم الرئيس الأسد هذا التعبير ساخراً، وقال: كما يقولون هم)، لحضور «جنيف 2»، بوصفه هو الشرعية السورية والممثِّل الحقيقي للدولة السورية في هذه المفاوضات، أمّا الآخرون، فلن يشاركوا إلا بوصفهم معارضة فقط.
طال حوارنا مع الرئيس وتشعَّب؛ غير أنَّ المهمّ هو الأجواء التي دار فيها هذا الحوار؛ فقد كانت أجواءً من الألفة الشديدة، والمودّة الصافية، والصراحة المخلصة. وكان الرئيس يحرص على الاستماع بانتباه شديد إلى مداخلاتنا، ويردّ بلطف وعمق على الأفكار التي لا يتَّفق معها، ويعرض رأيه وموقفه بوضوح. وقد اعتذرنا أكثر من مرَّة لأنَّنا أخذنا من وقته الكثير، لكنَّه في كلّ مرَّة كان يستبقينا وقتاً إضافياً. وبالنتيجة، تكرَّم علينا بما يقارب ثلاث ساعات إلا ربعاً من وقته الثمين. وبالنسبة إلينا، رأينا في هذا إشارة قويَّة لاطمئنانه إلى تطوّرات الميدان وسير الأوضاع عموماً في سوريا وحولها.
وفي نهاية اللقاء، استأذنَّا الرئيس في أنْ نلتقط معه صوراً تذكاريَّة خاصَّة؛ فاقترح أنْ نلتقط تلك الصور أمام لوحة قديمة لمعركة حطّين معلَّقة في القاعة المجاورة لمكتبه. وقال إنَّه لا يوجد في مكتبه سوى صورة واحدة لوالده، كذلك لا توجد لوحة فنية سوى تلك اللوحة التي تخلِّد معركة حطّين بقيادة صلاح الدين. ثمَّ خرجنا، من عنده بوداع حارّ، وقد حرص على أنْ يودِّعنا خارج باب مكتبه أيضاً.
سوريا ستصبح في المرحلة القادمة رقماً صعباً في المنطقة لا أحد يستطيع تجاوزه؛ فقد تعرَّضتْ لمحنة صعبة وأثبتت أنَّها عصيَّة على الكسر والإلغاء، وتعزَّزت قوّتها العسكرية كثيراً بالأداء الجيّد لقوّاتها المسلَّحة، وبدعم حلفائها... وخصوصاً الروس؛ ونُسِجَتْ حولها ومعها شبكة واسعة ومحكمة من التحالفات الوثيقة والواثقة، وهي، من الناحية الاقتصاديَّة، مقبلة على مرحلة ستكون فيها دولة نفطيَّة كبرى... لكن مع فارق أنَّها - بخلاف المشيخات النفطية التابعة - دولة مستقلّة تسيطر على مواردها الخاصّة وتسخّرها لخدمة مصالحها الوطنية ولتعزيز تنميتها المستقلَّة المتمحورة على الذات.
* اتحاد الشيوعيين الأردنيين