بمجرد أنّ تقطع الحافلة أثناء رحلتها من عاصمة الأمويين نحو مدينة جيرود منطقة الخطر الموازية لحرستا ودوما على أوتوستراد دمشق _ حمص يتنفس الركاب الصعداء. فالطريق التي ستوصلهم إلى البلدة الصحراوية صارت آمنة. تقع مدينة جيرود في ريف دمشق على بعد 55 كلم شمالي دمشق باتجاه حمص، وتحديداً في عمق هضبة القلمون. غالبية أهلها هم أناس بسطاء أجبرتهم ظروف الحياة على العمل في وظائف الدولة، أو على التفرغ لأعمالهم الحرة ضمن المدينة التي يقدر عدد سكانها بـ40 ألف نسمة. لكن الأمر لم يبقَ على حاله بعد اندلاع الأزمة السورية. المدينة التي بقيت على الحياد، استقبلت العائلات السورية النازحة من أماكن التوتر، ووصل عدد المهجرين في المدينة، حسب آخر إحصائية للهلال الأحمر، إلى ما يفوق 100 ألف مهجر فتحت لهم المدارس والنوادي الرياضية والمحال التجارية وقلوب أهل المدينة. وظلّ التوتر في جيرود منخفضاً نسبياً بسبب معلومات عن رغبة المعارضة المسلحة في تحييد المنطقة للأعداد الهائلة من اللاجئين وبسبب الطبيعة الجغرافية للمنطقة باعتبار أنها منطقة سهل محاطة بجبال تتمركز فيها ثكن الجيش السوري ويسهل استهداف أي وجود مسلح دون أن يدخل الجيش في معارك. هذا الواقع جعل المعارضة المسلحة تبتعد عن أيّ تمركز ضمن المدينة، فظل دخولها مقتصراً على عمليات مخطط لها، إما لتصفية أشخاص مدنيين باعتبار أنهم عملاء للنظام، أو لاستهداف السيارات الحكومية. وربما أخطر ما قامت به المعارضة المسلحة هو حصار المخفر منذ أكثر من شهرين، ومصادرة الأسلحة الموجودة فيه، ما دفع الحكومة إلى إغلاقه كلياً. وبعد اشتباك مع دورية أمن في المناطق الصحراوية المتاخمة للمدينة، والتي تصلها بالبادية السورية، مشّط الجيش السوري وقوات الأمن المدينة، ونُفذت عمليات اعتقال واسعة، بعدها هدأت الأحوال، لتشتعل مجدداً يوم أمس حيث سمع أهالي المدينة خبراً عن استهداف قوى المعارضة لطائرة سورية كانت تعبر باتجاه حمص، يتلوها انتشار كثيف لعناصر الجيش الحر مع سيارات مجهزة برشاشات الدوشكا، لتعيش المدينة ليلة رعب مظلمة بعد استهدافها بقصف عشوائي استمر من الساعة 2.30 فجراً حتى السابعة صباحاً مع انقطاع التيار الكهربائي والاتصالات عن المدينة، والحصيلة عدد من الشهداء المدنيين وإصابات بالغة في أبنية المدينة. ومع ساعات الصباح الأولى كانت تظهر سيطرة «الجيش الحر» على كامل المدينة وتمركزه في مبنى البلدية والمباني الحكومية، فنزح معظم ساكني المدينة إلى مبنى المحطة الحرارية لتوليد الطاقة الكهربائية الذي يبعد حوالى 5 كلم عن المدينة، لتغلق مداخل المدينة ويحاصرها بالكامل الجيش النظامي الذي منح مهلة للمسلحين تنتهي في تمام الساعة الـ6 مساء (أمس) بالانسحاب الآمن باتجاه مدينة القريتين التابعة لحمص حقناً لدماء المدنيين.
ولن يتمكن أي من المسلحين الذين دخلوا جيرود من النجاة حتى لو اضطر النظام إلى هدم المدينة فوق من تبقى فيها. اللافت أنّ جيرود ليس لها أي بعد استراتيجي أو أهمية في المعارك الدائرة في مختلف أنحاء سوريا، ورغم أن مصادر من المعارضة المسلحة صرحت لـ«الأخبار» بأنّ الهدف هو الاستيلاء على اللواء 155 المختص بالصواريخ لوقف إطلاق الصواريخ منه على حلب، كان الأهالي، بنسبة كبيرة، ضد دخول المسلحين إلى المدينة الآمنة لكونه لا يقدم سوى مزيد من دماء الأبرياء بإقحامهم بما لا يريدونه. وقد وجّه المسلحون نداءً إلى الأهالي للاحتماء بالملاجئ، لكن من يعرف جيرود يعلم جيداً أن لا ملاجئ فيها إلا في المدارس والأبنية الحكومية، التي أصيبت بأضرار كبيرة خلال القصف.