دمشق | زيارة جديدة تسجلها العبوات الناسفة وسط دمشق هذه المرة. دخل الموت من الباب الضيق، تحديداً من شارع «النصر» المتصل عبر درج قصير وحارة ضيقة تطلّ على ساحة «المرجة». وسط هذه الحارة تماماً، وقف رجل يحمل كيساً ممتلئاً بالمتفجرات، هذه الحارة التي تحتوي على «قسم الانضباط» وصالون «البرنس» للحلاقة الرجالية. أمام الصالون تأمل الرجل قليلاً بالناس الذين سيموتون بعد قليل، لكن أحد العناصر اكتشف ارتباكه فأطلق أربع رصاصات بحسب شهود عيان، لكنه فجر العبوة فوراً، منتحراً «في سبيل» استهداف عناصر القسم وما حولهم. حيث تقع بناية العابد القديمة، يسار ساحة المرجة الدمشقية، ارتفعت الأشلاء والدماء على جدران البناء التاريخي، جراء الضغط الذي حدث أثناء تفجير انتحاري صباح أمس. أصحاب المحالّ المجاورة قالوا لـ«الأخبار»: «صباحاً لم يكن إلا بعض عناصر الشرطة، والمنتحر وجد منفذ شارع النصر مفتوحاً، نزل عبر الدرج إلى وسط الحارة الصغيرة حيث يقع القسم، وفجر نفسه... انظر إلى بناية العابد كيف لوثها دمه اللعين!». وتشير الرواية الرسمية، حسب مصدر في قيادة الشرطة إلى أنّ «انتحاريين فجرا نفسيهما قرب قسم شرطة الانضباط، ما أدى إلى استشهاد 14 مواطناً وإصابة 31 آخرين بجروح متفاوتة الخطورة، نقلوا على أثرها إلى المستشفى، إضافة إلى أضرار مادية في المكان». وأشار المصدر «إلى وجود محفظتي أشلاء».
هكذا يشهد الحدث السوري عودة قوية للتفجيرات الإرهابية بعد الفشل المتكرر لحل الصراع في الميدان (القصير نموذجاً)، ويبدو المشهد كأنه عراق جديد يمتد على الأراضي السورية، حتى إن السوري نفسه أصبح يجد في الأسى حالاً طبيعية تجاه ما يراه من جرائم بحق أبناء بلده. يروي صاحب محمصة قريبة من مكان التفجير: «جاء شقيقان كي يسترزقا منذ الصباح، وفي محل الحلاقة زحمة، ولا يوجد سوى بعض الناس في الشارع. لم يدركوا حجم الموت الوقح الذي طاولهم في ركن لا يخطر تفجيره على بال الشياطين». ضيق الحارة وعدم تمثيلها لأي هدف استراتيجي سوى نشر الفزع بين الناس، هو أكثر ما صعق جيران الشهداء في موقع الانفجار، «رائحة الأشلاء التكفيرية اختلطت برائحة دم الأبرياء، ما بعرف أبكي، ولا أغضب، وسوريا عم تروح يوم وراء يوم»، يروي العامل في مطعم «العربي»، الذي يقع أمام «قسم الانضباط» المستهدف. ذهب الشاب الصغير إلى مكان قريب، وعاد ليجد الزبائن وزملاءه في العمل قد رحلوا دون أثر.
دمار الممتلكات هناك لم يكن يوازي حجم الخسائر البشرية. بعض المحالّ المحيطة تضررت، وانهارت أبوابها وزجاجها. جرح البعض وأغمي على البعض الآخر من الرعب. متسلل قاتل يمر عبر جموع الناس قاصداً معاقبتهم لأنهم استمروا في حياتهم. ترى، هل يمنع الأمن استخدام الأكياس في التجوال أثناء الزحام؟ يبدو السؤال قاتلاً! كيف يمكن ضبط هذه الفجوة الأمنية؟ «هناك أكثر من خمسة ملايين شخص وسط العاصمة، جميعهم محصورون مع آلاف المهجرين، كيف يمكن غربلة الإرهاب في كل هؤلاء؟ لا تكفي الحواجز لأنها لا تمتلك تقنيات عالية لكشف المارة، على الأقل قرب المراكز الحساسة، هكذا يرى فاضل الذي كان يتأمل سيارات الإسعاف وهي تغادر الساحة بعد تنظيف أشلاء الضحايا ودمار الممتلكات.
مجدداً ينفجر الرعب في العاصمة، بعد أن أصرّ سكانها، وأجهزة أمنها وأطواقها العسكرية الشديدة، على مواجهة الموت. فَشل التطرف في الدخول إلى الحياة الاجتماعية للمدنيين يُترجمه مسلسل الانفجارات وتساقط القذائف على البيوت والساحات العامة والمنشأت والمعامل والمدارس. لم تعد الحرب ضد النظام السوري فقط، بات كل السوريين هدفاً، وساحة «المرجة» التي تستقبل الوافدين إلى وسطها بانتظار الأمل والعمل فرغت تماماً صباح أمس. «اليوم طلع الدولار عند الدولة عشرين ليرة وصار 119 ليرة، وبالسوق السوداء وصل لـ 160ليرة، هذا كله ممكن نتحمله، من البداية كان المطلوب تدمير الاقتصاد السوري لإضعاف السلطة، وتفجير اليوم محاولة جديدة لترهيب أكتر مكان بدمشق مزدحم بالمحال التجارية والحضور التاريخي، الدليل بناية العابد، والمحال القديمة والمرغوبة هونيك... هيك موت ببلاش لكل سوري قرر يظل بالبلد ويتحدى الإرهاب»، يقول الحاج أبو مهدي (اسم مستعار) أحد أقدم الملّاكين في ساحة المرجة. وعي السوريين لِما يدور على أرضهم يزداد ويكبر، لكن حصة الأمان تضيق وتتقلص إلى درجة الاختناق. الجميع يتحمّلون مئات الحواجز، ويتحملون قطع الطرقات، والمحاربة بلقمة العيش عبر الغلاء، لكنهم جميعاً متفقون على أن تفتّت البلاد بأي ثمن هو هاجس كل الأطراف... تقريباً!
وفي السياق، أشارت وزارة الخارجية الروسية إلى أنّ «تفجيري دمشق تقف وراءهما القوى التي تعرقل الحل السياسي في سوريا»، مشددةً على أنه «يجب وضع حد لمحاولات إطالة المواجهة المسلحة في البلاد وتحويل سوريا السلمية والمتسامحة إلى قاعدة للإرهاب الدولي والتطرف».
وجددت الخارجية دعوتها شركاء روسيا «إلى دعم الجهود الرامية إلى إيجاد حل سياسي تفاوضي للأزمة السورية وإدانة جرائم الإرهابيين وداعميهم وموجهيهم بشدة».