«أعطني ليل الرقة، وأعطيك نساء دمشق»، هذا ما قاله الشاعر نزار قباني للأديب الدكتور عبد السلام العجيلي، خلال زيارته اليتيمة لمحافظة الرقة. رحل قباني ومن ثم العجيلي، وفقد ليل الرقة هدوءه المعهود.
أصوات الرصاص تطغى على كل شيء في المدينة، وتغتصب القذائف «مجهولة المصدر» هدوءها الليلكي المألوف، وتستبيح حرمة دماء أطفالها ونسائها.
تنتشر الحواجز على أطراف المدينة من جهاتها الأربع، يتوقف «البولمان» ليصعد فيه مسلحٌ ملثم بزيه «الباكستاني»، ينظر في وجوه المسافرين ويطلب البطاقات الشخصية، ويسأل الشباب عن تأجيلات خدمة العلم.
تسارع الفتيات إلى وضع شيء على رؤوسهن، «فالشعر عورة»، وتُوزع منشورات دعوية، ثم يتابع «البولمان» سيره، يعبر نهر الفرات ويمرّ فوق جسر الرشيد، ليلِج المدينة التي يشعر أهلها بغربة عنها.
جدارية البانوراما في أكبر الحدائق السورية، طُمست ألوانها الزاهية، وأضحت سوداء مع إضافة آية قرآنية. الحركة نشطة في «الكراجات»، وآثار الدمار واضحة في الأحياء المجاورة له. لم يُعد العلم السوري يخفق في سماء المدينة، العلم الجديد أسود «ينطق الشهادتين»، وجدران المركز الثقافي سوداء، حيث احترقت إحدى أهم المكتبات السورية التي تضمّ أكثر من 35 ألف عنوان، والعديد من الكتب والمراجع النادرة. تزيّن جدران المدينة الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والكتابات الدعوية، وأسماء بعض الكتائب والألوية والحركات، حتى اللوحات الإعلانية استخدمت لهذه الغاية، لدعوة أهل المدينة إلى العودة إلى ربهم والتوبة. عندما يُرفع الأذان في المساجد، تسير سيارة في أسواق المدينة، ويُنادي المنادي المدجج بالسلاح: «إلى الصلاة... إلى الصلاة يا اخوان»، فيما تقصد النساء البيوت ليوزعن أقراصاً مدمجة تحوي أناشيد وكتابات دعوية إسلامية على السيدات والفتيات.
قام أمير الدولة الجديد «أبو مصعب» بإنشاء صندوق لتلقي شكاوى المواطنين، ومتابعة أمورهم، وذلك ضمن بيان تم توزيعه في مختلف أنحاء المحافظة.
ودهمت «جبهة النصرة» مقار بعض «كتائب الجيش الحر» في المدينة، لتضبط في مدرسة «الوليد» الواقعة في حيّ الدرعية «وكراً للدعارة»، أما في مدرسة «الزهراء» وسط المدينة فقد اكتشفت معتقلاً، وجدت فيه عدداً من أطباء الرقة المخطوفين بغرض طلب الفدية، ومنهم إحسان عليوي، وعلو العلو.
بعد هذه التداعيات ونتيجة تنامي دور دولة «الخلافة الإسلامية» في المدينة، غادرت معظم الكتائب، وتغادر كل كتيبة بعد القيام باستعراض عسكري في الشوارع الرئيسة، وتُعلن أنها ذاهبة لنجدة «القصير»، ولا يعلم أحد بعد خروجها من المدينة أين الوجهة؟
رغم ذلك بدأ موسم الحصاد، وفي هذا الموسم من كل عام تكون الرقة على موعد مع الفرح، إلا أن وجوه الفلاحين متعبة هذا العام، ولا أمل لهم في تسويق المحصول، وهذا يُعد كارثة بالنسبة لآلاف الأسر التي تعتمد في معيشتها على الزراعة فقط. وفي تصريح له، أكد الأمير «أبو مصعب»، أنّ «لا قدرة لدولة العراق والشام الإسلامية على شراء كامل المحصول من الفلاحين».
كما عادت أغلب المؤسسات الخدمية للعمل، وأرسلت الحكومة السورية رواتب الموظفين، وفي خطوة مماثلة وزعت حركة «أحرار الشام الإسلامية» منحة مالية قدرها 10 آلاف ليرة سورية لكل موظف على رأس عمله، باستثناء بعض القوائم التي أصدرتها بأسماء من وصفتهم «بالشبيحة»، وهم من عُرفوا بمواقفهم المؤيدة للنظام السوري.
لم يعد الموت يعني شيئاً لأهل الرقة، الشوارع مكتظة بالناس، وجميعهم يفضلون الموت بين أهلهم وفي منازلهم، وتأبى الحياة إلا أن تستمر، أصوات الباعة تعلو، ويقدم الطلبة امتحاناتهم، إذ تم وضع أسئلة خاصة بامتحانات الرقة، وتُجرى الامتحانات بإشراف «الهيئة الشرعية» و«المجلس المحلي» بعد حذف «مادة القومية» من المنهاج.
تحاول الحياة أن تسير في المدينة التي لم تألف سوى الإسلام الفطري، فما زال معظم الناس يتباركون برؤية الشيخ الجليل «أبو عمشة»، وهو رجل مبروك، يؤكد معظم أهل الرقة، «أنّه ولي من أولياء الله الصالحين، وهو من يدفع البلاء عن المدينة وأهلها». لذا تراه يمشي في شوارع المدينة غير آبه بالرصاص والقذائف، وهذا يبعث في نفوسهم الهدوء والطمأنينة رغم أخبار الموت اليومية بقذائف الهاون.