لم يعد حديث الأزمة الحاليّة يأخذ وقت الزيارة كاملاً في حضرة الرئيس السوري بشّار الأسد. في الوقت الذي يفكّر فيه الرئيس السوري في سير العمليّات العسكرية في مختلف نواحي البلاد، ومتابعة أدقّ التفاصيل السياسية والاجتماعية اليومية، يفرد جزءاً يسيراً من عقله للتفكير في ما بعد الحرب. يعيش الأسد الأيام التي ستصمت فيها المدافع، ويعلو فيها صراخ المهجّرين والمفقودين والمعذّبين. البلاد موجوعة من أقصاها إلى أقصاها.
يعود زوّار قصر المهاجرين من اللبنانيين بانطباعاتٍ متشابهة عما يدور في رأس الرئيس هذه الأيام. وعلى عكس ما ينقله كثيرون عن أن ساكن قصر المهاجرين تحكمه راحة مطلقة، يقول الزوار إن الأسد مرتاح وغير مرتاح في آنٍ واحد. مرتاح لأن «سوريا لم تقطع فقط مرحلة الخطر الاستراتيجي، بل انتصرت بصمودها طوال هذه المدّة في ظلّ أشرس حملة نفاق عالمي إعلامي وأمني وسياسي عليها». ومرتاح لأن «العمود الفقري في الدولة السورية لا يزال صلباً، إذ أجرى أكثر من ثلاثة ملايين تلميذ سوري امتحانات نهاية العام الدراسي في ظلّ الحرب». وغير مرتاح، لأن الحرب خلّفت دماراً هائلاً في البنية السورية والعمران والاقتصاد والبنى التحتية والمجتمع والذاكرة السورية عموماً، ما سيرتّب جهوداً جبارة لإعادة اعمار ما تهدّم، في البشر والحجر.
في رأي الأسد، فإن إعادة اعمار البنى التحتيّة السورية والبيوت المهدّمة ليست القضيّة الكبرى، و«بات لدى القيادة السورية صورة كافية عن آلية إعمار الحجر في البلاد في المرحلة المقبلة». الهاجس الأكبر للقيادة السورية والدولة، هو إعادة بناء المجتمع، «تأتي بمهندس فيعيد إعمار البنى التحتية والبيوت، وتؤمن بيوتاً بديلة وأماكن إيواء لحين الانتهاء من أعمال الإعمار، أما الآثار النفسية التي أصابت المواطنين جرّاء التهجير وتهدّم بيوتهم وذكرياتهم وفقدان أحبتهم والأحياء التي تربّوا فيها، فتخطيها مسألة شاقة ومعقّدة وصعبة، ولا يمكن لطبيب نفسي أن ينهيها كما ينجز المهندس عمله».
وينقل الزوار عن الرئيس قوله إن «الفكر التكفيري الذي اخترق المجتمع السوري هو بمثابة تشويه للمجتمع السوري الحي، ومعالجته وإعادة رأب الصدع تحتاج إلى قيام حركات فاعلة وحقيقية تعيد تصويب ما دمره التكفير».
يشير الأسد إلى أن إعادة اللحمة داخل المجتمع السوري وتحصين الجبهة الداخلية السورية، «يحتّم قيام الأحزاب الوطنية والقومية والحركات الناصرية بإعادة تفعيل دورها وخلق حيوية داخل المجتمع السوري تكفل تفكيك ما زرعه الفكر التكفيري، وانتشار الطائفية والمذهبية».
لا يفصل الرئيس السوري بين إعادة اللحمة الاجتماعية في المجتمع السوري وبين المقاومة. ينقل الزوار عنه أن «انخراط المجتمع السوري في عملية الصراع مع العدو الاسرائيلي عبر المقاومة يساهم في تحصين الجبهة الداخلية». ويؤكدون ان لديه خطّة كبيرة وطويلة الأمد لمشروع المقاومة في الجولان على غرار ما حققته المقاومة في جنوب لبنان، بعدما باتت الصورة واضحة للخارج والداخل عن منظومة المقاومة، والمطلوب اليوم، بحسب الأسد، «عودة جميع الأحزاب والقوى الوطنية إلى المقاومة، وكذلك القوى الفلسطينية، وسوريا اليوم هي بوابة تحرير الانسان في الشرق والعالم عبر مشروع المقاومة».
بحسب الزوار، يدرك الأسد أهمية النفط السوري واللبناني في المرحلة المقبلة، والمخاطر التي تتهدد سوريا ولبنان لحماية النفط في البرّ والبحر. يقول الأسد إن «المعركة الكبرى القادمة ستكون على النفط، علينا أن نحمي نفطنا في لبنان وسوريا في البرّ والبحر، النفط في الخليج بيد الأميركيين، ويستخدم لتدمير بلادنا، علينا أن نستخدم نفطنا للتنمية، وتطوير بلادنا وتوظيف عائداته في الصراع مع العدو الاسرائيلي».
ينقل الزوار نقاشاً دار مع الأسد حول كيفية إدارة المعركة من قبل أعداء سوريا، الذين نجحوا في مرحلة معينة في «تظهير الصراع بغير حقيقته»، واليوم «بعدما ذاب الثلج وبان المرج في مصر وتونس، بات لزاماً أن يعاد تظهير الصراع على حقيقته». وتضمّنت الجلسة مقارنة بين مرحلة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 خلال حكم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وبين المرحلة السورية والعدوان الذي تتعرّض له سوريا. ويذكر الزوار الحديث عن «الحالة الوطنية» في العالم العربي، وضرورة تحويل هذه الحالة إلى قوّة. وتطرق النقاش إلى ما قاله في السابق الرئيس الجزائري الراحل أحمد بن بلّة ومقارنته بالمرحلة الحالية. قال بن بلّة إن «حركات التحرر في العالم واجهت ثلاث معضلات، أولاها أن الغرب لم يترك لهذه القوى فرصة كي تتعلم ثمّ تنفّذ، كان يلهيها دائماً بالحروب والنيران، وأنها لم تستطع صياغة نظام عالمي مواجه أو مواز أو بديل في مواجهة النظام العالمي الرأسمالي، وأن الناس كانت متعاطفة معها وليست شريكة». وبالمقارنة مع المرحلة الحالية، دار النقاش حول وجود تجربة كبيرة اليوم باتت لدى منظومة المقاومة على عكس حركات التحرر سابقاً، بالإضافة إلى منظومة عالمية تحميها، وأن العامل الثالث يحتاج إلى جهد لتحقيقه عبر انخراط الناس في فهم طبيعة المعركة. وسأل الأسد زواره باهتمامٍ بالغ: «هل ما زالت الأيديولوجيا حالة اجتذاب للشباب؟»، ليجري النقاش بعدها حول فكرة «العصبية القومية»، التي «لا تزال رابطاً أساسياً في الشرق، لكنّها مصابة بالهزيمة، وهي قد تشتعل في أي لحظة في مواجهة الفكر الطائفي والمذهبي والتكفيري الهدام في اللحظة التي تشعر فيها بانتصار».