اللاذقية | «لقد قتل أحدهم ضابطين في الجيش من أجل حجز طاولة في مطعم». هكذا يتناقل أهل اللاذقية الخبر، بالترافق مع التذمر والخجل من حصول الحادثة. ترخي الحادثة المذكورة بظلالها على أحاديث ونفوس أبناء المدينة. معظمهم يعتقد أن القيادة لا تعرف ما يجري، وأنها فيما لو عرفت فسيتغير كل شيء، فدم ضباط الجيش غير رخيص بالنسبة إليها. يقول نادر، طالب في جامعة تشرين: «يا للعار! هم يدافعون عن وحدة الوطن وشرفه، فيما أبناء العائلات المتنفّذة يقتلون بدم بارد». ويتابع قوله: «يجب أن يعرف الرئيس بالظلم والفوضى المنتشرين هنا، فتأثيرهما لا يقلّ عن أذى العصابات المسلّحة».
لا يشعر البعض في اللاذقية بوجود أزمة في البلاد. وحدهم أهالي الشهداء وفقراء المدينة يشعرون، ويعانون. حادثة وراء حادثة من قصص «تجبّر» أفراد العائلات المتنفّذة في السلطة يحيل أيام المدينة جحيماً دائمة. يكفي أن يقول لك أحدهم: «ما في أمل» كي تشعر باليأس والموت المتخفيين خلف كلماته. على «أوتوستراد» الجمهورية، تمر يومياً مواكب الشهداء. هذا لا يهمّ القيمين، إذ إن ثلاث سنوات مرّت دون أن تعي بلدية اللاذقية ضرورة إصلاح مجاري الصرف الصحي وتخليص سكان الأوتوستراد، على مفرق قنينص، من الروائح الكريهة، التي لم تخفف من حدتها وعود مسؤولي المدينة. مواكب الشهداء لن تغيّر شيئاً من أمر المعنيين. وللبعوض في المدينة حكاية أُخرى، فهو أسعد الأحياء. وبما أن البلدية في وادٍ، والسكان في واد آخر، لا وقاية من البعوض «ولا من يحزنون». لا تشكُ كثيراً. لن تجد لشكواك نفعاً، بل ستُعدّ حالتك مجرد محاولة إحداث ضجيج بلا طائل. اكتفِ بالحكّة الناتجة عن قرص البعوض، وضع بعض الكحول للتعقيم، واستمرّ في الحكّّ «فدا الوطن».
النكتة الأكثر سماجة في حياة المدينة هي النتائج التي جرّتها إبداعات طلاب اللاذقية وابتكاراتهم في أساليب الغش الامتحاني، على أهل المدينة من شقاء. فقد وصلت عبقرية الطلاب في اختراع وسائل الغش في الشهادتين الإعدادية والثانوية، واستعمالهم سماعات الهاتف الخلوي في الغش الامتحاني، مبلغاً قضّ مضجع القيّمين على المدينة. ولم يجهد القيمون أنفسهم كثيراً في إيجاد آليات ناجعة لوقف عملية الغش، بل قرروا بسهولة وبساطة أن إيقاف جميع طرق الاتصال الخلوي خلال ساعات الامتحان عن جميع المقيمين في المدينة هو الحل الوحيد. إذاً لا تجرب الاتصال صباحاً. لن تستفيد شيئاً، فالطلاب يمتحنون، والقرار صارم. وجميع أهالي المدينة، من كان بين أبنائه طلاب أم لم يكن، يلتزمون الصمت الخلوي، ويوقفون أشغالهم وظروفهم الطارئة، ريثما ينتهي الطلاب من طقسهم الامتحاني. كما لا داعي إلى القلق على مصير الطلاب دون اتصالات، إذ إنهم لن يضلّوا الطريق لإيجاد أساليب بديلة للغش. فاستخدام مصغّرات الكتب التي تطبع بغرض إدخالها إلى قاعة الامتحانات ونقل المعلومات منها، هو بديل بدائي بسيط عن استخدام السمّاعات، فيما أبناء المتنفذين يتباهون باستخدامهم جهاز «توكي ووكي» بديلاً ناجحاً عن السماعات. تتأمل قليلاً بمدى جدية إتاحة الفرصة لهم من أجل استخدام الجهاز الأمني، ثم تُسكت أسئلتك، فما الذي يمنعهم؟ وحدهم أهالي المدينة يعجزون عن تدبير أمورهم في وقت تغلق فيه الحكومة ومسؤولو المدينة كل أبواب الحياة في وجوههم. فإن تعترض على تسيير أمر ما في المدينة، ستنتبه إلى حجم الهجوم الذي ستناله من مواطنين عاديين. يقول محمود، متطوع في الجيش: «لا يتقبل كثيرون الاعتراض على أداء الدولة. ستصطدم بك أينما ذهبت عبارة «مو وقتو». 40 سنة ونحن نقول مو وقتو... طيب أيمتى وقتو؟». ويتابع: «الآن هو الوقت المناسب للمحاسبة. الآن أكثر من أي وقت مضى، وأكثر من أي وقت لاحق. كل الأوقات يجب أن تكون لإعادة الحقوق وإنصاف المظلومين». ثقافة «كل الأوقات للمحاسبة» لا تلقى رواجها في المدينة، بل تصطدم بجدران العقول الموالية للسلطة، التي تعتمد في تأييدها التوافق المطلق مع السلطة ظالمة كانت أو مظلومة. فليس الآن وقت محاسبة المسؤولين الفاسدين. ولا وقت لـ«تنظيف» المدينة، حيث تنشغل البلدية بإطلاق حملات تنظيف تشمل حديقة مبنى المحافظة ومحيطها. يذكر حازم، أستاذ جامعي، أن كل أساليب الاعتراض على ما يجري من ظلم وفوضى قد جُرّبت دون فائدة. ويضيف: «اعترضنا عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وحاولنا التواصل مع الإعلام لفضح بعض الرموز وأبنائهم وإيصال الصوت إلى القيادة في العاصمة. لم يبقَ إلا أن نفعل كما فعل غيرنا، والتظاهر ضد الظلم والفساد القائمين لعل مطالبنا تصبح محقة وتجد من يسمعها». وفي المقابل، يرى منصور، وهو طبيب مقيم في أحد المستشفيات الحكومية، أنّ الحرب القاسية التي يمر بها البلد هي التي أفرزت تجار الحروب وفاسديها ومرتزقتها، وأن الحديث عن معارضات واعتراضات هو تنظير في غير مكانه وزمانه. يرفض الطبيب أي نقد لأداء النظام، حيث يرى أن المعارضة هي أساس الخراب الذي تعيشه البلاد، ومنظّروها هم الذين أوصلوا البلد إلى الحرب القائمة. ويرى أن كل ما يجري تداوله عن استشهاد ضابطين على يد ابن إحدى عائلات اللاذقية المتنفّذة، هو مجرد فقاعة لإثارة بلبلة في المدينة حول بعض العائلات، فيما الموضوع لا يعدو كونه سوء تفاهم بين أشخاص عاديين. ورغم تأكيد الخبر، والممارسات الخاطئة التي يتبعها حمَلة السلاح في المدينة، يجد منصور أن الحديث عن السلبيات والعيوب الآن لا يخدم سوى أعداء سوريا، إذ ليس هدفه النقد البنّاء أبداً. كلام منصور يعبّر عن رأي عدد كبير من مواطني اللاذقية رغم كل الاحتقان الحاصل في المدينة، حيث لا يزال ابن اللاذقية، والسوري عموماً، مضرب الأمثال في التأقلم. فإن أغلقت الدولة طريقاً، مضى إلى آخر، مع القليل من التذمر أحياناً. وإن كان الازدحام على الحواجز خانقاً، ينزل الناس سيراً على الأقدام. وإن انقطعت الاتصالات أو الكهرباء، يجلس المواطنون في منازلهم يتأملون بعضهم بعضاً. إنها ليست مدينة الشبيحة. هي مدينة تعسة فحسب. تلملم جراح أبنائها من عوائل الشهداء، ليأتي فاسد فينكأها، دونما أية إشارة اهتمام من مسؤولي العاصمة، الذين يغرقون بدورهم في مشاكل البلاد الاقتصادية والأمنية. إلا أن سكانها يرون أنّ غض الطرف من قبل كبار المسؤولين ليس إلا «ضوءاً أخضر» للظالم أن يمعن في تجاوزاته.