وجد ليبراليو سوريا والتجار الكبار السياسات الاقتصادية الجديدة ما قبل 15 آذار 2011 مناسبة لاقتناص فرص جديدة للنهب والمتاجرة بقوت الشعب، حتى وإن أدى تحرير التجارة الخارجية إلى الإضرار بالصناعة الوطنية، لا بل إن بعض الصناعيين أقفل مصنعه وسرح عماله وتحول إلى مستورد، فقد أصبح الاستيراد يدرّ من الأرباح ما يفوق ما تدره الصناعة.
وتحرير التجارة الخارجية، يأتي من خلال «حزمة» من السياسات التي بدأ الترويج لها من خلال برنامج كامل للتحول نحو اقتصاد السوق، وفقاً للوصفة التي قدمت إلى الدول الاشتراكية السابقة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وهي الوصفة التي تم الاتفاق عليها بين ثلاث جهات مقرها واشنطن، وهي حكومة الولايات المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لهذا فقد دُعيت بـ«وفاق واشنطن»، وللتذكير تقوم هذه الوصفة على برنامج يتضمن:
1ــ إحداث زيادة ملموسة في مدى الاعتماد على الأسواق الحرة، بما في ذلك تحرير التجارة وفتح الأبواب لتدفق الاستثمار الأجنبي!
2ــ إطلاق مجالات العمل أمام القطاع الخاص بشقيه المحلي والأجنبي، واعتباره ركيزة التنمية، وتشجيعه بشتى السبل، بما في ذلك الخصخصة وإشراكه في تقديم الخدمات (المرافق العامة).
3ــ إحداث خفض ملموس في دور الحكومة وحجمها وتدخلها في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية (حكومة الحد الأدنى).


شعار فريق الدردري

من هنا نجد أن شعار «تحرير التجارة الخارجية ــ قاطرة النمو» هو أحد أركان وصفة وفاق واشنطن والمؤسسات الدولية، ومنظمة التجارة العالمية، ولكن هل التحرير فعلاً يقود إلى النمو؟!
حمل الفريق الاقتصادي الحكومي في سوريا برئاسة عبدالله الدردري هذا الشعار، وبدأوا بالترويج له على نطاق واسع، ساعدهم في ذلك، مبعوثو الاتحاد الأوروبي، ومركزا الأعمال (الأوروبيان) في دمشق وحلب، إلى جانب بعثات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغرف التجارة، والفئة من البيروقراطيين المرتبطين بجميع هؤلاء تحقيقاً لمصالح ضيقة.
يدور برنامج تحرير التجارة الخارجية حول إلغاء القيود الإدارية والكمية على الاستيراد وخفض الرسوم الجمركية وإطلاق حرية الاستيراد دون قيود، إلى جانب هدف آخر يطرح (على استحياء) ومن باب التغطية، وهو تشجيع التصدير.
والمفارقة هنا واضحة، فإطلاق حرية الاستيراد وخفض الرسوم الجمركية، يعني القضاء على الإنتاج الوطني، لأنه سيتعرض لمنافسة غير متكافئة من البضائع الأجنبية، مما يعني إغلاق آلاف الورش والمعامل والمصانع التقليدية وخروج منتجاتها من الأسواق، لصالح البضائع والمنتجات المستوردة، مما يعني أيضاً نسف الهدف الثاني وهو تشجيع التصدير، ففي حال توقف الإنتاج، ماذا نصدر؟
والمفارقة الثانية في هذا المجال، إن الولايات المتحدة (التي تتربع على رأس هرم الرأسمالية العالمية والاقتصاد الحر) في الوقت الذي تدعو البلدان النامية إلى تحرير التجارة الخارجية وفتح أسواقها للمنتجات الأجنبية، تقوم بين حين وآخر، بإصدار قوانين تمنع أو تحد بموجبها من استيراد بعض المنتجات الصناعية من الصين وحتى من اليابان، حماية لمنتجاتها الوطنية.
إلا أن الخطورة الأكثر وقعاً من توقف الإنتاج الوطني نتيجة للمنافسة غير المتكافئة، هي منع قيام صناعات وطنية، خاصة في الصناعات الدقيقة، ذلك أن توفر هذه المنتجات في الأسواق بفضل تحرير التجارة، يلغي الحافز إلى إقامة معامل لإنتاجها، إذ ما دامت هذه المواد تتوافر في الأسواق، وما دام المستهلك يستطيع الحصول عليها، فإن المستثمرين الصناعيين لا يجدون مبرراً أو حافزاً لإقامة المعامل لإنتاجها.
هكذا نجد أن تحرير التجارة الخارجية، في الوقت الذي يصار فيه إلى تشجيع الاستيراد، يحول دون زيادة الصادرات، بل يؤدي إلى تراجعها، بعدما أغلقت الورشات والمعامل الوطنية كنتيجة مباشرة لفتح باب الاستيراد على مصراعيه، يضاف إلى ذلك، أن عدم إقامة صناعات جديدة وتوقف صناعات قائمة أدى إلى زيادة عدد العاطلين من العمل وعدم القدرة على خلق فرص عمل جديدة.


«العجز» بالأرقام

وكي لا يبقى كلامنا مجرد كلام، تظل الأرقام هي القول الفصل، إذ تشير إحصاءات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2012 (ملحق رقم 9/1، ص424) إلى أن الميزان التجاري السوري كان إيجابياً، إلى أن بدأت تظهر آثار تحرير التجارة الخارجية، فبدأ العجز يتسرب إليه، فيتصاعد العجز عاماً بعد عام، من 521.1 مليون دولار عام 2007 إلى 3662.9 مليون دولار عام 2010، ثم إلى 4821 مليون دولار عام 2011، أي أن العجز التجاري تضاعف حوالى عشر مرات خلال خمس سنوات، وقد نجم هذا العجز نتيجة لتصاعد الواردات السلعية مقابل تراجع الصادرات، ولكن العجز سيتضاعف إذا ما أخذ بالاعتبار الصادرات النفطية، التي توقفت الآن بعد الأحداث، وبسبب العقوبات المفروضة على الاقتصاد السوري، مما انعكس سلباً على حجم احتياطات النقد الأجنبي في المصرف.
ليس هذا فحسب، فقد أدى خفض الرسوم الجمركية إلى تراجع حصيلة الإيرادات الجمركية، كما يستخلص من تقرير الحكومة المالي المقدم إلى مجلس الشعب، فبعدما كانت نسبته تشكل 12% من إجمالي الضرائب عام 2003، أصبحت تشكل 11.3% عام 2011، علماً أن عدم انخفاض النسبة إلى أكثر من ذلك يعود إلى انخفاض نسبة الضرائب المباشرة، في حين تستمر عمليات الاستيراد على وتيرتها المتصاعدة، لكن تبين عمق تأثير خفض الرسوم الجمركية، عندما تنسب حصيلتها إلى إجمالي المستوردات السلعية، ففي حين كانت هذه النسبة 11.6% عام 2003، انخفضت إلى 3.25% عام 2011، وقد كانت حصيلة الرسوم الجمركية إلى الناتج المحلي الإجمالي عام 2003 (2.8%) فانخفضت هذه النسبة إلى 1.17% عام 2011.
والجدير بالذكر، أن المؤسسات الدولية التي توصي بتحرير التجارة الخارجية، وخفض الرسوم الجمركية، تحاول إرضاء الدوائر المالية، باقتراح يقضي بتأمين مصدر ضريبي جديد يعوضها عن الخسارة في الحصيلة الجمركية، ويقوم الاقتراح على فرض ضريبة جديدة باسم «ضريبة القيمة المضافة» ضمن برنامج للإصلاح الضريبي، وهذه الضريبة هي من الضرائب غير المباشرة التي سيتحملها في النهاية عامة الشعب وأصحاب الدخول المحدودة، ورغم أن قانون هذه الضريبة أصبح جاهزاً، إلا أنها لم تطبق لأسباب عدم توفر الوسائل الفنية، فضلاً عن المعارضة التي واجهت تطبيقها من أصحاب الدخل المحدود والنقابات.

فريق يرغب الاندماج بالاقتصاد العالمي

ونلاحظ أن الفريق الاقتصادي الحكومي، في معرض تنفيذه شعار تحرير التجارة الخارجية، يسارع في إصدار التعليمات والقرارات المساعدة على التنفيذ وإزالة المعوقات، كما أنه يغالي في تنفيذ متطلبات الانضمام إلى الشراكة الأوروبية ومنظمة التجارة العالمية، مما أثار دهشة مندوبي الشراكة والمنظمة، فقد فاقت عمليات التنفيذ الشروط والمهل المطلوبة، وأراد الفريق الاقتصادي أن يعطي المفاوضين في الشراكة والمنظمة انطباعاً عن الجدية التي يتمتعون بها في بيان الرغبة بالانضمام إلى العولمة الاقتصادية والاندماج بالاقتصاد العالمي من جهة، كما أنهم يريدون خلق وقائع لا يمكن العودة عنها من قبل أية حكومة مقبلة كما يتصورون، وقد أوصلوا مفاوضات الانضمام إلى الشراكة إلى مرحلة التوقيع بالأحرف الأولى.
إن الإجراءات الاقتصادية التي اتبعها الفريق الاقتصادي، ومن أولوياتها تحرير التجارة الخارجية، من شأنها إضعاف الدولة، مما أفقدها ويفقدها القدرة على التفاوض، وأضاعت فرص تحقيق مكتسبات لصالح الاقتصاد الوطني، وقد سعى الفريق الاقتصادي إلى ذلك دون أدنى شعور بالمسؤولية في مواجهة ما سيلحقه ذلك من آثار كارثية على المواطنين من أصحاب الدخل المحدود، وكذلك على قطاع الإنتاج العيني، الذي يشكل قاعدة التنمية الأساسية، فهذه الفئة من المسؤولين الاقتصاديين، تعمل من خلال التزاماتها بنهج وسياسات المؤسسات الدولية، وليس من خلال التزاماتها الوطنية، ولعل هذا ما يفسر سرعة التحاقهم بمناصب رفيعة في تلك المؤسسات، حال تركهم وظائفهم في الدولة، ولهذا السلوك الوظيفي أثره المدمر للاقتصاد الوطني، عندما تُغلّب مصالح الخارج على المصالح الوطنية، فيتخذ المسؤول الاقتصادي من القرارات ما يخدم تلك المصالح المشبوهة للدول الأجنبية وللشركات متعدية الجنسية، بحكم الانتماء لسياسات اقتصادية لا تخدم المصالح الوطنية بقدر ما هي تعبر عن المصالح الخارجية، لقاء تحقيق بعض الفوائد الشخصية أو لخدمة قناعات أيديولوجية لا تصب في النهاية لمصلحة البلاد.
إن وضع قيود على الاستيراد (سواء كانت هذه القيود كمية أو إدارية أو بزيادة الرسوم الجمركية) ليس بدعة، إنما هي سياسة حمائية يقصد بها حماية الإنتاج الوطني (زراعي وصناعي) من المنافسة غير المتكافئة للإنتاج الأجنبي، وتأتي سياسة تحرير التجارة في المقابل ضمن مجموعة من الإجراءات الآيلة إلى تحويل الاقتصاد إلى اقتصاد السوق، لتجري عملية ربط الاقتصاد الوطني بمقتضيات التطور في المراكز الرأسمالية.
* اقتصادي سوري




«التحرير قبل التمكين خطر جسيم»

في مقابل شعار تحرير التجارة الخارجية، طرحنا شعاراً آخر هو «التحرير قبل التمكين خطر جسيم»، بمعنى أن تحرير التجارة وفتح باب الاستيراد قبل تمكين الاقتصاد الوطني ورفع قدرته التنافسية، سيلحق أخطاراً جسيمة في الاقتصاد ويهدد السلم الاجتماعي، لكن آذان المسؤولين الاقتصاديين كانت مغلقة وصماء تجاه الآراء والمواقف التي تخالف توجهاتهم وأيديولوجيتهم ومصالحهم، فأمعنوا في تنفيذ التوجهات الاقتصادية الليبرالية في الانفتاح والتحرير الاقتصادي، ضاربين عرض الحائط بالمصالح الوطنية وما يمكن أن تتركه هذه السياسات من آثار سلبية تمثلت على نحو رئيسي في إغلاق الورش والمعامل المنتشرة في جميع أنحاء البلاد والتي يعتاش منها مئات الآلاف من العمال.

وتجلت هذه النتائج الكارثية، على سبيل المثال، بأن فتح الأسواق للأثاث المنزلي والمكتبي المستورد من تركيا إلى حالة من المنافسة غير المتكافئة، أدت إلى إغلاق ورش صناعة الأثاث في بلدة سقبا القريبة من دمشق، والتي كانت تستقطب جموع المستهلكين من أنحاء سوريا، نظراً لدقة التصنيع وانخفاض سعره قياساً لمنتجات أخرى، وبالتالي أدت إلى رفد جيش العاطلين من العمل بأفواج جديدة، وقد كان هؤلاء العاطلون من العمل من بين (طلائع) حركة الاحتجاج التي انبثقت في الأحياء والقرى، التي كانت تعج بآلاف الورش للصناعات التقليدية مثل الأثاث والملابس والجلديات وغيرها، حيث غطت المستوردات الأسواق المحلية، ودخلت في منافسة شرسة مع المنتجات الوطنية.
أدى تحرير التجارة الخارجية وفتح الاستيراد على مصراعيه (إلى جانب مجموعة أخرى من السياسات الاقتصادية والمالية) إلى نتائج اقتصادية مؤلمة، إلى جانب تهديد السلم الاجتماعي وإخراج أفواج جديدة من القوة العاملة من العملية الاقتصادية في القطاعات المنتجة، وبالتالي أسهم في توسيع دائرة الفقر وزيادة عدد المهمشين في المجتمع، كما أدى إلى اتساع قطاع اقتصاد الظل والاقتصاد الأسود الذي يتمثل في انتشار الأعمال المخالفة للأنظمة والقوانين، وتنامي العشوائيات حول المدن، وزاد في تعقيد هذه المشكلات الفساد والإفساد الذي خلق وقائع جديدة من المصالح أدت، إلى جانب عوامل أخرى، إلى إعاقة التنمية وإعاقة عملية الإصلاح في آن معاً.