أُطفئت الأنوار وأُنزل الستار، معلنة غياب حمد بن جاسم بعد سنوات من الوهج والبريق من حول الرجل الذي فرض نفسه على الجمهور العربي والعالمي من خلال تدخله في ملفات حساسة وذات تأثير على الساحة العربية والدولية... لكن نهاية المشهد لن يصاحبها تصفيق... فالأكف مشغولة بالتصفيق للأمير الجديد. في مشاهد البث الحي لاجتماع أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني بأفراد العائلة الحاكمة وأهل «الربط والحل»، شخصت العيون والأنظار لتدقق في الصور المنقولة لتتحقق من حضور رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري حمد بن جاسم، وبعد التأكد من حضوره هذا الاجتماع الهام، ظهر حمد بن جاسم خلال مراسم تسليم السلطة في قطر وخلال مراسم المبايعة بصورة الرجل الكئيب المهزوم، الذي هزمه «ربيع قاتل» صنعه بنفسه.
«هذا ما جنيته على نفسي»، لا بد أن هذا هو لسان حال حمد بن جاسم الذي «طبّل» و«زمّر» للتغيير والحريات والديموقراطية في العالم العربي من المحيط الى الخليج، فأطاحته شعاراته. يتمتع الرجل بكاريزما عالية لا يمكن التنكر لها من محبيه ومبغضيه، وله شبكة علاقات دولية كبيرة صنعها على مدى ربع قرن من الزمن خلفت عنده خصومات سياسية عربياً ودولياً. وقد أثار دعم بلاده للقوى السياسية الصاعدة في دول الربيع العربي موجة من السخط من طرف القوى المعارضة التي ما فتئت تشكك بالدور القطري الساعي إلى تدمير سوريا بما فيها ومن فيها وليس فقط التخلص من نظام الرئيس بشار الأسد، رغم مليارات الدولارات التي أنفقتها الدولة الخليجية لتحسين الحالة الاقتصادية لتلك الدول.
لكن هذه الصفات لم تمنع عنه العداوات الشرسة التي نشأت بينه وبين عدد من المسؤولين القطريين، ولا سيما ولي العهد تميم بن حمد ووالدته الشيخة موزة بنت ناصر، التي كان لها اليد الطولى في تسريع عملية الانتقال هذه لتحصين حكم ولدها من نفوذ بن جاسم السياسي والاقتصادي. ويروى عن الكثير من التنافس والقرارات المضادة بين الفريقين.
يوصف حمد بن جاسم برجل قطر الذكي والقوي، الليبرالي المنفتح، يدعم مشروع حداثة الدولة مع المحافظة على الموروث الديني والوطني. لكن الرجل كانت له مروحة من العلاقات المثيرة للجدل، ولا سيما أنه جذب حركة «حماس» في فلسطين وحزب الله في لبنان والرئيس السوري بشار الأسد في الوقت الذي كانت فيه حبائل الود والتواصل المستمر على أحرّها مع وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني وعدد من المسؤولين الصهاينة.
ولد في عام 1959، وتلقى تعليمه الأساسي في الدوحة، والأكاديمي في بريطانيا. انطلق في حياته العملية كرجل أعمال ولا يزال، قبل أن يشغل منصب مدير مكتب وزير الشؤون البلدية والزراعة في عام 1982، ومن ثم وزيراً للوزارة ذاتها في عام 1989، ثم وزيراً للكهرباء في عام 1990، ووزيراً للخارجية في عام 1992، الى حين تكليفه برئاسة الوزراء في عام 2007 الى جانب مهماته في وزارة الخارجية التي لم تمنعه من تسلّم مهمات أخرى، من بينها مجالس إدارات الخطوط الجوية القطرية وجهاز قطر للاستثمار وشركة الديار القطرية.
برز دوره كسياسي محنك في كثير من الملفات الإقليمية والدولية التي أدارها، وساهم في وضع بلاده على خريطة السياسة الدولية من خلال توسطها في عدد من ملفات المصالحة والتوفيق، وعلى رأسها ملف السلام في الشرق الأوسط، وتحقيق المصالحة بين السودان وتشاد في عام 2009، الى جانب ملف السلام في دارفور، والمصالحة اللبنانية، والتقريب بين جناحي فتح وحماس في الملف الفلسطيني، ومن ثم انغماسها في ملفات الربيع العربي التي وصلت الى حد المشاركة في العمليات العسكرية ضد نظام القذافي في ليبيا وتسليح المعارضة السورية ضد نظام دمشق.
وحمد بن جاسم، الحليف القوي للغرب في الدوحة، هو أيضاً واحد من أغنى الأشخاص في العالم العربي وربما في العالم، وتقدر ثروته بعدة مليارات من الدولارات.
وكان أمير قطر قد حكم على رئيس وزرائه بالإعدام السياسي، رابطاً مصيره بنهاية حكمه. ونقل كتاب فرنسي صدر مؤخراً حواراً دار بين الأمير حمد وأحد أصدقائه في ربيع 2012، قال فيه «حمد» لصديقه: «لقد قررت أن أترك الساحة بعد أربع سنوات، لا بد من إفساح المجال أمام الشباب»، فسأله الصديق: «أتظن أن حمد بن جاسم سيوافق علي قرارك هذا، أو حتى إنه ينوي ترك السلطة بدوره؟». فرد الأمير: «حمد سيفعل ما آمره». استمر اعتراض الصديق: «لكن حمد يصغركم بتسعة أعوام»، فردد الأمير: «طالما أنا موجود فسيظل حمد موجوداً، أما لو ذهبت، فسيذهب معي».
اعتبر البعض أن قطر تغازل دول الخليج بإبعاد رئيس الوزراء حمد بن جاسم عن المشهد السياسي. وأن قطر الجديدة في عهد تميم بن حمد لن تختلف عن البحرين والإمارات باعتبارها ولايات سعودية... بعدما أشعل بن جاسم الخلافات في ما بينها واتهم بأنه رجل المؤمرات الذي عمل على زعزعة الأمن والاستقرار وإثارة النعرات والخلافات بين الدول الخليجية. وهو اتهم بتحريض المعارضين ضد حكامهم في السعودية والإمارات، ما سبب توتراً بين هذه الدول وشقيقتهم الصغرى قطر.
وتقول مصادر مطلعة إن حمد بن جاسم، الذي كرمه مؤخراً مركز «سابان»، أبرز الداعمين في واشنطن للأنشطة الإسرائيلية الاستيطانية، يعدّ العدة لحياته المقبلة خارج قطر. وأكدت صحف أميركية صفقة شرائه قصر «إلين بيدل شيبمان» في نيويورك مع كل ما يحتويه من أثاث بـ 35 مليون دولار، الأمر الذي يجعل نيويورك وجهة محتملة لإقامته بعد تنحيته من رئاسة الحكومة. فيما رجح مصدر دبلوماسي في الدوحة تفضيل رئيس الوزراء القطري العاصمة البريطانية لندن لتكون مقر إقامته مستقبلاً كمواطن عادي. وعزت مصادر سياسية اختياره لندن مقراً لحياته الجديدة حيث يمتلك أغلى شقة في بريطانيا تطل على الهايد بارك، فضلاً عن حبه للانغماس في أجواء الحياة في بريطانيا.
ويثير غياب حمد بن جاسم المرتقب قلق الإخوان المسلمين في المنطقة لعلاقاته القوية بهم وتبنيه مشروع ردم الهوّة بينهم وبين الولايات المتحدة، ودعمه المالي والاستثماري للتجربتين الإخوانيتين في تونس ومصر.
وتوقع كثيرون أن حمد بن جاسم بن جبر لن يكون على الساحة بحلول ٢٠١٤ وسيرحل عن الأضواء واللعب على الساحة الدولية وهو في قمة نفوذه، لأسباب ستكون مجهولة إلى حين، وهذا ما حصل، ما يدفع إلى التخمين بأن دور قطر الإقليمي سينكمش بعد خروج بن جاسم من دائرة الحكم، ولا سيما بعدما سلم وزراء الخارجية العرب، باستثناء لبنان وسوريا والعراق والجزائر أمر قيادتهم، إلى «ثعلب» الخليج، الذي نجح في تفتيت الجامعة العربية وتنفيذ أجندة الاستخبارات الغربية في إضعاف الدول العربية من خلال تعزيز الانقسام والدعوة إلى الفوضى.
سينتهي حمد بن جاسم رجلاً للأعمال كما كان دائماً، وهو البارع في التجارة وعقد الصفقات، لكن ثمة خشية من حرتقات انتقامية قد يقوم بها وهو القابض على اللوبي الاقتصادي في البلد، وبالتالي قادر على تحريك حلفائه الاقتصاديين الذين أبدوا تململاً من إبعاده عن الحكم.
ميّاسة...