دمشق | يوماً بعد آخر، تضيق فسحة الحياة المعتادة لدى السوريين، الذين باتت غالبيتهم، منذ اندلاع الأزمة، محاصرين بين فكي كماشة: الموت جراء الحرب المشتعلة والمتصاعدة في العديد من مناطق البلاد، والجوع نتيجة نقص الموارد وارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى مستويات قياسية، يستحيل عليهم دائماً تأمين الأموال اللازمة لشرائها.
الظروف الاستثنائية التي يمرّ بها السوريون بغالبية فئاتهم، وإن اختلفت نتائجها، تبعاً لكل حالة من الحالات، إلا أنها تتوحد بالأسباب، المتعلقة جميعها بالأزمة ومخلفاتها من الحصار الاقتصادي وانخفاض قيمة الليرة إلى خسارة العمل ورفع الدعم الحكومي عن عدد من المواد، وليس انتهاءً بالتهجير والتشرد. الأمر الذي يدفعهم، بحسب برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، إلى الاستغناء عن العديد من المواد الغذائية وخفض كمية الأطعمة الأساسية التي يتناولونها لتوفير المال.
استغناء السوريين عن المواد الرئيسية في سلتهم الغذائية يأتي كما يوضح محلل اقتصادي مراقب، رفض الكشف عن اسمه، لواقع الأسواق في سوريا، نتيجةً طبيعية، لتدني الإنتاج المحلي وإغلاق المعامل وتراجع الزراعة وانخفاض سعر صرف الليرة. وهو ما أدى إلى انعدام الموارد لدى فئة كبيرة من السوريين وارتفاع أسعار المواد الغذائية الرئيسية المتمثلة، بالبيض والحليب ومشتقاته، مشيراً إلى أن سعر كيلو الحليب ارتفع من 35 ليرة إلى 100، واللبن غير كامل الدسم من 40 ليرة إلى 120، فيما وصل سعر البيضة الواحدة إلى ما يزيد على 15 ليرة، بعد أن كان سعر ثلاث بيضات بعشر ليرات.
ولم تغطّ زيادة الرواتب، للموظفين في الدولة، التي صدرت أخيراً في سوريا، كما يرى المحلل الاقتصادي، في حديثه مع «الأخبار»، إلا جزءاً يسيراً من العجز الغذائي الذي خلفته زيادة الأسعار وانخفاض قيمة الليرة؛ لأن نسبة الزيادة كانت بما يقارب 30 بالمئة، فيما وصل ارتفاع أسعار معظم المواد إلى 200 بالمئة، وهو ما يشير إلى أن هناك فجوة ما زالت بحاجة إلى التغطية بمقدار 170 بالمئة.
ووفق المحلل الاقتصادي، الذي يصف سلة معظم السوريين الغذائية اليوم بالسلة التي «لا لحم ولا بيض ولا حليب فيها»، إن محافظة الدولة على سعر الخبز دون ارتفاع واستمرار دعمه «أعجوبة من الأعاجيب»، رغم كل ما يتعرض له الرغيف من محاولات الاستهداف والتهديدات التي تلقاها المزارعون بحرق محاصيلهم وانخفاض معدلات الزراعة بما يصل إلى 70 بالمئة منذ بداية الأزمة.
الأزمة في سوريا التي خلفت فئة جائعة وأخرى لا تستطيع اقتناء المواد الغذائية الأساسية بالكامل «لم تكن لولا انتشار الإرهاب والعدوان والحصار الغربي العربي كما يقول مصدر سوري مطلع لـ«الأخبار»؛ فقد كان السوريون يعيشون، قبل ذلك، في اكتفاء كامل بالسلة الغذائية التي أطعمتهم، في سنوات مضت، مع الملايين من اللاجئين العرب من فلسطين ولبنان والعراق، مشيراً إلى أن اعتداءات الإرهابيين على قوافل المواد الغذائية وحصار القرى وحرق المحاصيل يرمي ضمن خطة تدمير سوريا إلى «معاقبة وتجويع شعبها الذي وقف على الدوام ضد المشاريع والمخططات الأميركية والصهيونية في المنطقة».
وبجردة للواقع المعيشي على الأرض، لا يتردد أبو مجد، العاطل من عمله الخاص منذ ما يقارب سنة بسبب «تدمير محله في جوبر بعد تحصن عدد من المسلحين فيه»، في شرح الأحوال الصعبة التي يعانيها مع أسرته منذ أن انتقلوا للعيش داخل أحد مراكز الإيواء في دمشق، بعد احتدام المعارك في المنطقة نتيجة «سيطرة الجيش الحر على عدد من شوارع الحي»، ليكون مصيرهم معلقاً بالمساعدات الحكومية ولجان الإغاثة وإعاناتها «البسيطة» التي «لا تسمن ولا تغني من جوع».
أبو مجد الذي أخرج عائلته من جوبر دون أن يستطيع إخراج كامل أمواله وحاجياته، هرباً من الموت المنتشر على الطرقات، يرى أن ارتفاع الأسعار الكبير، يحتم عليه الاكتفاء بالقليل من الطعام «الخالي من اللحم»، وتقنين حاجات أسرته بما يتلاءم مع واقعه الجديد الذي لم يكن أحد يتوقع أن تصل له أي عائلة سورية قبل الأزمة.
وفي إحدى المدارس القريبة من الريف الدمشقي الملتهب، تقبع عائلة أبو عامر، في قاعة دراسية تحولت منذ مدة ليست بقصيرة إلى مأوى للعديد من الأسر الهاربة من الحرب. تجتمع العائلة على حصير حول صحن فيه القليل من البطاطا المسلوقة وأرغفة الخبز، وتتابع على شاشة صغيرة تقريراً عن فوائد اللحوم وطرق حفظها وتجميدها ضمن حلقة من برنامج «صباح الخير» على الفضائية السورية.
تحاول أم عامر أن تخفي دموعها عن أطفالها الأربعة، وهي تشاهد التقرير؛ فسعر كيلو اللحم يراوح بين 1000 ليرة للعجل و1400 للخروف، ولذلك بات من المنسيات، مع قائمة طويلة من الأغذية، لدى عائلتها وعشرات الآلاف من العوائل المتضررة.
وتعبّر الأم، التي تحاول تأمين كل ما يلزم لإطعام أطفالها، عن ندمها للخروج من منزلها الذي يقع في منطقة اشتباك، لأنه كان من الممكن أن تزرع الأرض المجاورة وتأكل من خيراتها بقدر ما تستطيع.
لكن ترك الأسر منازلها في المناطق الواقعة تحت سيطرة المسلحين، ورغم الأثر السلبي الكبير الذي يلحق بها، وما يترتب عليها من تكاليف إضافية، يبقى أفضل حالاً من البقاء، كما توضح رانيا، الناشطة الإعلامية، ولا سيما أنهم، أي المسلحين، يفرضون على الأهالي في بعض المناطق دفع «الجزية» بحجة الدفاع عنها من القوات الحكومية.
وحسب رانيا، المطلعة على واقع أسر عدة في منطقة يبرود بريف دمشق، «تضطر الأسر مجبرة على دفع الأموال شهرياً للمسلحين على حساب تأمين أغذية أطفالها»، كي «تحصن نفسها من الموت السريع تحت سيوف المسلحين»، حتى وإن انتقلت إلى موت أخر، بالعيش في فاقة وحاجة، يبقيها في الحد الأدنى على قيد
الحياة.
بقاء الأسر في سوريا على قيد الحياة، خلال الأزمة، يأتي من خلال تأقلمها مع الوضع الناتج من نقص الأغذية وصعوبة تأمين المال الذي جاء وفق تقويم برنامج الأغذية العالمي عبر اتباعها استراتيجية التحول إلى الاغذية ذات النوعية الأقل والتخفيف من اللحوم والبيض ومنتجات الألبان، وتخصيص 50 بالمئة من ميزانياتهم للإنفاق على الطعام.
ولا تقتصر ميزانية الأسر بالإنفاق على الطعام، بل تذهب نسبة كبيرة منها لدفع إيجارات الشقق التي ارتفعت منذ بداية الأزمة في المناطق الآمنة بمعدل ثلاثة إلى أربعة أضعاف، ما أجبر العديد من الأسر على التشارك مع بضعها في استئجار الشقق. فيما لجأت عائلات أكثر حظاً إلى بعض أقاربها، لكنها ما لبثت أن غادرت معهم إلى منزل آخر نتيجة امتداد الأحداث الأمنية إلى منطقتها، كما حدث مع عائلة أحمد الجاسم (اسم مستعار) التي استبدلت، منذ اندلاع الأزمة، أكثر من ثلاثة بيوت في مناطق عدة في دمشق وريفها تشاركت فيها مع عدد من أقاربها لتأمين مبلغ الإيجار اللازم.
ويشير أحمد إلى أنّ عائلته لا تفضل اللجوء إلى مراكز الإقامة الحكومية، رغم ما تعانيه من أزمة مالية وما تقدمه تلك المراكز من تسهيلات؛ فهي لا ترضى أن تأخذ مكان عائلة يمكن أن تكون محتاجة أكثر، ولا تملك أي شيء من المال، وكي لا تضطر تلك العائلات إلى سكن المباني المهجورة ومحطات الحافلات والمخازن، كما ورد في تقرير برنامج الأغذية العالمي الأخير وتستفيد من المساعدات الحكومية.
مساعدة الحكومة للمواطنين لا بدّ وأن تتعزز مع اقتراب شهر رمضان الذي تزداد فيه الأسعار باطّراد، الأمر الذي سيزيد الأعباء المترتبة، ولا سيما على فئة غير الموظفين «الخارجين من رحمة الحكومة واهتمامها»، وفق ما يرى خالد، أحد المقيمين في مسجد الإيمان داخل العاصمة دمشق، قبل أن يدعو إلى تقديم سلال غذائية متكاملة وعاجلة للأطفال لضمان نموهم بالشكل الطبيعي والأمثل.
وحتى انفراج الأزمة في البلاد وانتهاء الحرب، التي لا موعد محدداً لساعتها، لن يكون هناك حل فعلي ومعالجة تامة للنقص الغذائي الذي يهدد غالبية السوريين، حيث ستتواصل معاناتهم وهمومهم، ليكون أطفال سوريا هم الخاسر الأكبر والوحيد والشاهدين على مرحلة تمر بها بلادهم، يقف العالم فيها بين متفرج ومشارك في حصارها واقتتال أبنائها.