دمشق | خلال سنتين ونصف السنة، تفوّقت فيهما المعارضة إعلاماً وتوثيقاً على الحكومة السورية، فيما لم تهتمّ السلطات بالأمر، ولم تولِه عنايتها، بل آمنت بأن إثبات القوة يظهر في النتائج وليس في الإبهار الإعلامي وسرعة نشر الحدث، وتصرّفت بموجب أن «المنتصر هو من يكتب التاريخ دون عناء». وعليه، لا تزال الحكومة السورية تصارع من أجل تحقيق النصر والحصول على تسوية سياسية لائقة، والتوثيق، برأيها على ما يبدو، غير مهم على ضوء الثقة العجيبة بالانتصار المقبل. أما المعلومات فهي تتشتت ما بين الطرفين، حيث لكل منهما «شهوده العيان» ومحطاته الفضائية التي تبالغ في نقل الخبر وتثير سخرية كل طرف تجاه الآخر، بدءاً بتقارير الوسائل الرسمية القائمة على كشف «التضليل الإعلامي»، وصولاً إلى جمل خشبية رددها هذه الإعلام مثل: «هي الحرية اللي بدكن ياها».
الكثير من المراصد الحقوقية تأسست خلال الأزمة السورية بهدف توثيق «جرائم» الطرفين، ومدّ وكالات الأنباء بإحصائيات حقيقية عن ضحايا العنف والمخطوفين واللاجئين. المرصد السوري لحقوق الإنسان كان أهم المراصد التي ذاع صيتها واستقت منها وسائل الإعلام أخبارها، إثر اعتماد المرصد على شبكة مكوّنة من 200 مراسل، قُتل منهم 6 مراسلين منذ بداية الأحداث. اعتمد المرصد على تقارير إعلامية وشهادات للناس العاديين ونقل روايات بين سكان المناطق، ما جعل منتقديه من المعارضين أنفسهم قبل المؤيدين. محاولة المرصد الدائمة أن يكون حيادياً أفقدته الحياد، باعتبار مديره رامي عبد الرحمن معارضاً، الأمر الذي أعطاه الكثير من التسهيلات لدى الناشطين داخل الحاضن الشعبي المعارض. وللباحث السوري ومؤسس حزب عدل، نبيل فياض، مقال طويل في نقد أداء مدير المرصد وأصوله التي وصفها فياض بـ«الإخونجية». فياض الذي يعمل في مجال التوثيق أيضاً، صرّح لـ«الأخبار» بأنّه ينشط في البلاد باعتباره جزءاً من المجتمع المدني. ويؤكد بشدّة عدم تقديم الدولة أي مساعدة في هذا المجال. لكن يشدّد الرجل على أنه يعمل على توثيق «جرائم جبهة النصرة» حصراً، معتمداً على وثائق وشهادات حيّة على انتهاكات إنسانية وطائفية. ويعمل على هذا الملف مع مجموعته الحزبية المستقلة في محافظات عديدة منها: حلب وحمص والسويداء ودمشق وريفها، إضافة إلى اللاذقية وطرطوس وأجزاء من ريف حماة. ويعتمد في عملية التوثيق على التدقيق في عدد الشهداء والضحايا من المخطوفين والمقتولين. ويضيف: «أوصلتُ بعض الناس والضحايا إلى الأمم المتحدة، وتم عرضهم على لجان حقوق الإنسان للإدلاء بشهادات حية عما تعرّضوا له. كل ذلك طبعاً على نفقتنا الخاصة». ويُعدّ مشروعاً توثيقياً بالصورة لما حصل في سوريا على مدار العامين الماضيين، سيُعرض خلال أيام في محافظات عدة. ويؤيد العبارة الشهيرة «التاريخ، يكتبه المنتصر».
ليس فياض وحده، بل كثيرون اتهموا رامي عبد الرحمن ومرصده بتزوير أعداد الضحايا الذين يقدرهم بأكثر من 100 ألف، دون أن يشير إلى أن ضحايا الجيش والقوى الأمنية الذين يقدّرون بنصف عدد الضحايا السوريين، ودون أن يعطي أسماءهم أيضاً. وفيما يخص أسماء الضحايا، فإن نقل الأسماء من العربية إلى الانكليزية، بهدف التوثيق، أمرٌ له حساسيته، حيث يواجه التوثيق في هذه الحال مشكلة كبرى تقوم على كتابة الأسماء مرتين بهدف زيادة العدد باستعمال أحرف مختلفة للفظ عربي واحد. أمرٌ يؤكده المنسق العام للمرصد السوري لضحايا العنف والإرهاب، تامر ياغي، الذي اعتُبر مرصده الجهة المدنية الوحيدة المستقلة عن السلطات السورية التي رافقت وفد المراقبين العرب خلال جولاته على الأراضي السورية. ويرى ياغي أن الاعتماد على تقارير إعلامية لا يعتبر توثيقاً، وهو ما يعتمده المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي أعطى تقارير تفيد بمقتل 24 ألف علوي خلال الأحداث. ويتساءل حيال ذلك بقوله: «أين هم هؤلاء؟ لا سيّما أن شهداء الجيش موثّقون بجنازات رسمية بحضور عائلاتهم، دون أي تستّر على استشهاد أحدهم». ضعف التوثيق لدى السلطة لا ينكره ياغي، ويعود، بنظره، إلى اهتمام كل وزارة بشهدائها دون التنسيق مع جهة واحدة توثّق أسماء جميع الضحايا. ويشيد بعمل مرصده الذي يُعنى بتوثيق من اختفوا من مناطقهم وتم اعتبارهم مقتولين، في حين أن بعضهم نزح أو خُطف أو اعتقل، لا سيما في ظل عدم وجود جثث لهم تثبت أنهم توفوا. المفاجأة كانت إيقاف عمل المرصد السوري لضحايا العنف والإرهاب، ما يثبت التجاهل الواضح الذي تمارسه السلطات السورية تجاه ملف التوثيق، إذ لا أهمية تُذكر بالنسبة إليها لدعم أنشطة مؤسسات المجتمع المدني، حتى تلك التي لا تنشط ضدّ النظام. ويعزو ياغي التعتيم على عمل مرصده، في حال أخذه بحسن نية، إلى إغفال أهمية دور المجتمع المدني في سوريا. أما في حال أخذ الأمر على محمل النيات السيئة، فإن المنسق العام لمرصد ضحايا العنف يجد أن الجهة التي حظرت عمل المرصد لا رغبة لديها في اطّلاعه على شيء ما لا ترغب في نشره. كلام ياغي يثير الكثير من الجدل حول ممارسات السلطات الحاكمة في سوريا في ضوء عدم اعتراف منظمات حقوق الإنسان بأي توثيق حكومي تحت إشراف السلطة، واهتمامها بتقارير المجتمع المدني والمنظمات الأهلية غير الحكومية. وفي سوريا تعتبر جميع المنظمات والنقابات والمؤسسات الحكومية تحت الوصاية، حسبما يراها المجتمع الدولي. ويعتدّ ياغي بأن توثيق المرصد كان يؤخذ به في الخارج، إثر تعامله مع فريق لجنة المراقبة التابع للأمم المتحدة برئاسة كوفي أنان، ومرافقة فريق الجامعة العربية برئاسة محمد الدابي. جهات رسمية سورية عديدة تقوم بعملية التوثيق الحكومية التي لا بدّ من أن تحتويها سجلّات الدولة، وهي تتمثل: بوزارة الخارجية ونقابة المحامين، إضافة إلى اتحاد غرف الصناعة الذي اهتم بتوثيق التدمير الصناعي الذي شهدته البلاد. وما جعل موقف الدولة السورية أضعف هو رفضها أن يوثّق أحد سواها الأحداث القائمة، رغم علمها بأنها الجهة المدعى عليها في الخارج. وبحسب شرح منسق مرصد ضحايا العنف، فإن التقارير الحكومية لا يؤخذ بها، وإيقافها عمل الهيئات والمؤسسات الأهلية وتوثيقها أمر غير مفهوم. وقد طلب المرصد من لجان المراقبين توثيق حالات خرق المادة الأولى من الأمم المتحدة القائمة على إنماء العلاقات الودية بين الأمم، من خلال خرق السيادة السورية يومياً بتهريب السلاح والمسلحين والأموال من قبل دول الجوار، وهو أمرٌ لم تقم به الحكومة السورية.
محاولة التواصل مع ممثّلي المرصد السوري لحقوق الإنسان المعارض حول الحجج التي تم تفنيدها في تقويم أداء المرصد المعارض التوثيقي، باءت بالإخفاق. صفحة المرصد المفتوحة للجميع تمتنع عن الرد من دون تقديم سبب لذلك. وفي ظل صمت الأدباء والفنانين عن دورهم الحقيقي في عكس مرآة الشعوب لهذه المرحلة بعد هرب معظمهم خارج البلاد وإبعاد آخرين وإنتاج أعمال مرحلية لا ترقى إلى الخلود، تبقى الحقيقة حملاً ثقيلاً على المعارضة والسلطة معاً، فيما كتابة التاريخ أمانة صعبة يقف السوريون حيالها متفرجين بصمت على كمية الكذب المهداة إلى أحفاد لن يعوا حراجة تعقيدات هذه الحقبة من الزمن.