«أيها الشيوعي الكافر، حان وقت القصاص»، هذا ما كتبته إحدى الكتائب المعارضة في مدينة الرقة على جدران منزل أحد الشيوعيين البارزين ممن غادروا المدينة هرباً من البطش.
دخل عناصر الكتيبة منزله غير مرّة، حطموا تمثال لينين، وأحرقوا صور ماركس. ملأوا البيت بالكتابات، «انشق يا كافر»، «أعلن توبتك»، ولم تنجُ إلا صورته مصافحاً الرئيس بشار الأسد حيث حملها معه قبل فراره.
هربت مراسلة التلفزيون السوري متنكرة باللباس الشعبي لنساء الرقة. عادت إلى مسقط رأسها في مدينة طرطوس.
وكانت قد قضت طفولتها وشبابها في مدينة لا تعرف التعايش، إنما ايديولوجيتها «فطرة العيش».
أما أسامة فقد ترك المدرسة، أو بالأحرى هي التي تركته. أغلقت بابها في وجه طلابها.
اسقط اسم المفكر «زكي الأرسوزي» من اللوحة المعدنية أعلى المدرسة التي أصبحت مقراً لإحدى الكتائب، وحملت اسماً جديداً لأحد «الشهداء المجاهدين».
لا بد من البحث عن فرصة للعيش، وأفضل تجارة رائجة في أسواق المدينة للمراهقين هي تجارة الأسلحة، لتوفرها وزيادة الطلب عليها، رغم ارتفاع سعرها، إلا أن هامش ربحها كبير.
بدأت المدينة تنسلخ عن فطرتها وتكتسب ثقافة الموت، والقتل والدمار. يقف أسامة على بسطة كانت تستخدم لبيع علب السجائر في شارع «القنيطرة»، مستعرضاً مجموعة من المسدسات الحربية «تركية المنشأ»، وبعض الرمانات اليدوية، ويؤكد لأحد الزبائن «أن لديه بارودة روسية ممتازة وسأحسبها لك بـ150 ألف ليرة سورية، والطلقة الواحدة بـ 250 ل. س».
سماع رشقات الرصاص، وتوالي سقوط قذائف الهاون على المدينة، لا يهم المراهق الصغير، همه الوحيد بيع أكبر عدد ممكن من قطع السلاح والعودة إلى بيته بربح وفير.
يروي أسامة لـ«الأخبار»، كيف يؤمن قطع السلاح. «لم يعد هذا بالأمر الصعب كما كان سابقاً. أخي الكبير انضم لإحدى الكتائب في مدينة تل أبيض، يزودني بالمسدسات التركية، ونجري عليها بعض التعديلات في المدينة الصناعية ثم نبيعها»، يقول.
ويضيف «أي شخص أضحى بإمكانه امتلاك سلاحه الخاص، لا يتجاوز ثمن المسدس التركي 15 ألف ليرة سورية، أما البنادق الآلية التركية «بومب أكشن» فسعرها بين 12 و17 ألف
ل. س.
ويصل سعر المسدس الجيد إلى 200 ألف ل. س».
الأطفال والمراهقون هم الأعرف بالمواصفات، والأشد ولعاً بالأسلحة، بل أصبحت الظاهرة هوساً، ويتابعون أخبارها كأنها إحدى صيحات الموضة.
تحولت بعض ورشات المنطقة الصناعية إلى منشآت لتصنيع القذائف والصواريخ والراجمات، وتعديل الأسلحة الخفيفة. بعضهم طمعاً وجشعاً، وآخرون جوعاً وخوفاً.
كل شيء في محافظة الرقة كان يمتاز بفطرته، الحياة، العيش، حتى الدين هو فطري، والإسلام علاقة روحانية بين العبد وربه، بعيداً عن أي مظهر من مظاهر التشدد والتطرف، ولا يُسأل المرء عن دينه أو مذهبه أو عقيدته.
اليوم، أُعلنت دولة الخلافة، ونُشر الهيكل التنظيمي لشكل الدولة الإسلامية المُعلن عنها.
فصل الذكور عن الإناث في معاهد الدورات التعليمية، وحُرّم تدريس المعلم الذكر للإناث، وأقر مشروع اللباس الشرعي للفتيات «ارتداء النقاب»، وتم تنفيذ حدّ الجلد على شاب في مدينة الطبقة كان يجلس مع خطيبته في الحديقة.
اعتقلت إحدى الناشطات من المدينة لمخالفتها قرار الهيئة بفتح بسطة كانت تبيع فناجين ملونة بأعلام «الثورة».
أما الحركات المدنية فما زالت على تنوعها وكثرتها حبراً على ورق، ولم تستطع بعد أن تحاكي طموحات المواطنين، إذا ما استثنينا «حركة حقنا» الفاعلة شبابياً.
هذه ليست الرقة، فايديولوجية المدينة، وأهلها المضيافون جعلاها لا تعرف الفنادق، أبواب بيوتها مشرعة دائماً لكل ضيف، أو مقيم، أو عابر سبيل.
نستطيع الجزم أن الكتائب المسلحة بمختلف توجهاتها ليست خياراً للشعب، إذ يشعر كل المدنيين بالغربة عنها.
وتمضي الحياة رتيبة في مدينة لم تجع بعد، لكنها جائعة، ولم تمرض بعد، لكنها حاملة
للمرض.
يفتقد أهلها الباقون من غادرهم ميتاً أو مُهجراً أو نازحاً هارباً من أقارب وجيران وأصدقاء بكل وجع وألم.