انهيار الاسلام السياسي، فجأة، كبناء زجاجي هشّ، تتناثر شظاياه التي لم يعد ممكنا لحمها ــ وهو مما يزيد من خطورتها ــ يقود الى فكرة بسيطة مسطحة تذهب فورا الى التفسير التآمري. لم نستطع، بعد، ان نتحرر من عقيدة القدرة الالهية للولايات المتحدة؛ قررت التحالف مع الاسلام السياسي فجاء، ثم قررت الاستغناء عنه، فرحل!
من الواضح، بالطبع، أن واشنطن موجودة في المسار العام للترتيبات السياسية في المنطقة، لكن وجودها ليس ذاتيا ومقرّرا وحاسما، وانما هو محصلة للصراعات والارادات وموازين القوى. وكلها تحدث على الأرض، وفي الميدان، وفي سياق تاريخي؛ كان واضحا منذ مطلع الألفية الجديدة أن الانظمة العربية القائمة، اصبحت فائتة بالنسبة لمقتضيات العصر، وعاجزة عن ادارة الأزمات السياسية والاقتصادية الاجتماعية المعقدة التي تشل العالم العربي، وتمنعه من الدخول في التاريخ، أي في مسار التنمية والتشغيل والتقدم. هنا، ساهمت الهيمنة الليبرالية والتمويل الخليجي على النخب الثقافية العربية، في تصوير تلك الأزمة العميقة وكأنها ازمة غياب الديموقراطية.
أثبت التاريخ، مرارا وتكرارا، ولا يزال، عدم وجود اي ارتباط سببي بين الديموقراطية والتنمية، كما في حالة العملاق التنموي الصيني، لكن في الحالة الروسية، ثبت العكس؛ فالديموقراطية الليبرالية حطمت روسيا وشلت قدراتها التنموية والدفاعية، بل وجوّعت الروس. لقد تبين أنه لا توجد وصفة واحدة للنظام السياسي الملائم لكل المجتمعات. ويذكرنا الالحاح على هذه الوصفة، بالالحاح على وصفة صندوق النقد الدولي لاعادة هيكلة الاقتصادات المأزومة على أساس معادلة خفض دور الدولة الاقتصادي الاجتماعي وتحويلها الى خدمة الرأسمال الأجنبي، مقابل تمويل الديون بالديون في حلقة مفرغة تعيد انتاج التخلف والفقر والتهميش، وتسمح بتراكم الثروة لدى تحالف السياسيين المتنفذين ووكلاء الرأسمال الأجنبي.
كان واضحا أن الشعوب العربية المفقرة المقهورة، قد بدأت تختزن الغضب والتمرد على وضعها، بينما وعيها مقيّد بالاسلام السياسي ووعي نخبها مقيد بالليبرالية السياسية، هذا المزيج الذي سعت قطر، بنجاح، الى تشبيكه، وظهّرته قناة «الجزيرة».
قبيل الثورات العربية في العام 2011 كانت الولايات المتحدة قد استدارت مع رئيسها الليبرالي، باراك أوباما، من الحرب على الارهاب والاسلاموفوبيا الى مغازلة الاسلام السياسي واجراء التفاهمات مع القوة الاسلامية الرئيسية، اي «الاخوان». واتجهت واشنطن مع اندلاع الحركة الجماهيرية العربية، الى اعتماد مقاربة جديدة تقوم على مصادرة التمرد الشعبي العربي في صيغ ليبرالية، تسمح للاسلاميين بالوصول الى الحكم في البلدان العربية المأزومة، باعتبارهم الأقدر على ادارة أزمة التخلف، وتجديد نظام السيطرة الامبريالية الصهيونية الخليجية على العالم العربي من خلال الشرعية الدينية.
لم يقدم الاخوان المسلمون تنازلات للأميركيين؛ (1) ذلك أن تصورهم الاقتصادي الاجتماعي الأصلي لا يخرج عن حدود النيوليبرالية و الكمبرادورية في أكثر طبعاتها يمينية، (2) بالاضافة الى ان الانظمة الخليجية تعد، عند الاسلاميين، اسلامية أو اقله حليفة وداعمة، (3) ويبقى الموقف من اسرائيل. وفي الحقيقة، يكشف تاريخ الصراع العربي ــ الاسرائيلي أن الاخوان المسلمين اعطوا الأولوية دائما للصراع الايديولوجي والسياسي الاجتماعي الداخلي على الصراع مع الاسرائيليين. والشاهد تجميدهم العداء لاسرائيل في فترة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي كان عدوهم رقم واحد، حتى أن مشايخهم صلوا ركعات الشكر لله عند هزيمته امام اسرائيل العام 1967، وظلوا في حالة سكون وتعاون فعلي مع الاحتلال في فلسطين بعد الـ67 الى اواسط الثمانينيات حين بدأ يتبلور اتجاه مقاوم عبرت عنه حركة حماس التي استعادها الاخوان الى صفوفهم في خضم الربيع العربي.
وجد الأميركيون المعنيون بالحفاظ على اقتصاد السوق وامن الانظمة الخليجية واسرائيل، في الاخوان المسلمين حليفا ملائما لمرحلة جديدة تقوم على معادلة أكثر ما يمكن من النفوذ وتأمين المصالح بأقل ما يمكن من الكلفة السياسية والعسكرية؛ بل انهم بدوا وكأنهم قد وجدوا ضالتهم: يدعمون ديموقراطية صديقة في مصر، تنفّذ سياساتهم بغطاء شعبي، ويخوضون حربا ضد النظام السوري بسواعد الاسلاميين واموال الخليجيين، بينما تراقب واشنطن الوضع من بعيد!
هذا هو السياق العام للربيع العربي الذي انهته انتفاضة 30 حزيران الكبرى في مصر، لكنها انهته بعدما كان قد ترنّح بسبب تناقضاته الداخلية وبسبب موازين القوى المستجدة في المنطقة والعالم. في باب التناقضات الداخلية في المشروع نفسه هناك، اولا، التناقض، في بنية التحالف بين انظمة وحركات تدعي الشرعية الديموقراطية وأنظمة مشيخية عائلية مستبدة قروسطية، وثانيا، هناك التناقض القائم، في الدعوة الديموقراطية المؤسسة على الدين ذاتها، بين كونها مطلوبة في سوريا ولو بالقتال والتدخل الاجنبي وممنوعة في البحرين ولو كانت سلمية. وهو ما اسبغ طابعا مذهبيا صريحا على مشروع الديموقراطية الدينية، باعتبار ان شرعيتها الوحيدة يمكن استنباعها، وفق تنظيرات عزمي بشارة، من الوهابية. اي، بايجاز شديد، ظهر أن الدعوة الديموقراطية الاخوانية السلفية هي ديموقراطية مذهبية بامتياز، تقصي المذاهب الاسلامية الاخرى والمسيحيين والعلمانيين الخ، وهناك، ثالثا، التناقض الخاص بفتوى تأجيل الصراع مع اسرائيل، بل والتفاهم الضمني معها، حتى انجاز السيطرة الوهابية الاخوانية السلفية على العالم العربي، وهناك، رابعا، التناقض الصريح بين الدعاية الاخوانية والسلفية المركّزة على الاعتدال والدمقرطة والصندوق وبين الصلات الفعلية مع الحركات التكفيرية الارهابية وتقديم الغطاء السياسي لجرائمها. هذه التناقضات الداخلية الأربعة، عرّت خطاب الديموقراطية الدينية، وهشمته وأظهرت بشاعته، من دون أن يلحظ الاخوان المنتشون بالسلطة، ازورار المزيد من الفئات الاجتماعية عن خطابهم، رغم انه كان يمكنهم ان يلاحظوا ذلك حتى من خلال التدني المتلاحق في عديد مشاهدي «الجزيرة».
مصرياً، خلط الاخوان بين التدين الشعبي المتسامح للمجتمع المصري وبين امكانية فرض النمط الوهابي المتعصّب على المصريين. وبينما أظهروا عجزا مفرطا في ادارة الدولة والخدمات العامة والسياسة الخارجية والاعلام الخ، دخلوا في صراع متواصل مع الدولة المصرية ومؤسساتها وقيمها، من دون ان يقدروا العمق التاريخي لحضور هذه الدولة الوطنية في وجدان ابنائها. وقد انتهوا، في النهاية، الى الاصطدام بالجميع، مما اشعل انتفاضة الجميع ضدهم.
الأهم في هذا المسار الهابط كله، هو تعثر المشروع الاميركي الخليجي التركي الاخواني السلفي في سوريا. لقد انكسرت الموجة في سوريا، سياسيا واخلاقيا ومن ثم عسكريا. وفي حمأة الصراع في سوريا وحولها، تظهرت القوة المستجدة لروسيا الاتحادية واسندت محورا اقليميا قائما هو محور المقاومة، وتشكّل، في النهاية، ميزان قوى جديد على المستويين الاقليمي والعالمي. وعلى هذا المهاد بالذات، انتصرت انتفاضة 30 حزيران.