سُرقت الإلهة «عشتار» ولم تعد هناك إلهة للحب والجنس والحرب، وانطفأت أشعة نجمة المساء التي تشع منتصبة فوق ظهر الأسد، حسب الأساطير الفينيقية. كان متحف قلعة جعبر في محافظة الرقة أول استهداف للمواقع الأثرية بعد سيطرة الكتائب المعارضة على ريف المحافظة. ففي شهر أيار من العام 2012، تم نهب المتحف، وسُرقت نحو 17 قطعة أثرية، يعود معظمها إلى الألف الثالث قبل الميلاد. وهي من أهم الشواهد المتبقية لموقعي «إيمار» و«تل السلنكحية» اللذين غمرتهما مياه بحيرة الأسد بعد إنشاء سد الفرات سبعينيات القرن الماضي. تمثال الإلهة عشتار من أهم المسروقات. تاريخياً تعود آثار الرقة المكتشفة إلى حقب متعددة. ومنها ما يعود إلى سنة 8500 ق.م، حيث أقدم مسكن في التاريخ على ضفاف الفرات في تل مريبط.
دمّر «حمورابي» الرقة، وأنهى أي شكل من أشكال الحياة فيها، عام 1750 ق.م. ازدهرت المدينة في العهد الإسلامي، وأصبحت حاضرة الخلافة العباسية، وحملت اسم «محافظة الرشيد»، نسبة للخليفة هارون الرشيد حتى ستينيات القرن المنصرم.
غزا «تيمورلنك» الرقة عام 1731م، اجتاحها لينهي حقبة من الازدهار العمراني والثقافي والعملي. أُحرقت المدينة، وهرب سكانها من البطش المغولي وأضحت خاوية على عروشها. احتاجت بعدها إلى نحو نصف قرن حتى بدأت تستعيد عافيتها.
تعرضت آثار المدينة لانتهاكات كبيرة في الحقب المختلفة التي مرت بها.
لا يختلف مصير المواقع الأثرية في الرقة عن مصير حقول النفط التي أثرت الكتائب وقادتها.
حاولت الحكومة السورية حماية أهم القطع الأثرية في متحف الرقة. مع ازدياد التوتر. نقلت 547 قطعة أثرية هامة إلى مصرف الرقة المركزي. تم الاستيلاء على المصرف بما فيه من نقود وقطع أثرية في نيسان الماضي. ونُقلت المحتويات كلها إلى جهة مجهولة، أكدت الكتيبة التي سيطرت على المصرف في بيان لها: إنها «نقلت جميع محتويات المصرف إلى بيت مال المسلمين». «ألسنا نحن المسلمين؟»، تساءل أهل الرقة. لا جواب.
تضمّ الصناديق المستولى عليها نقوداً ذهبية إسلامية، ورقماً مسمارية ومجموعة أختام ودمى وأقراطاً ذهبية، جميعها موثقة في سجلات رسمية.
اكتفت المديرية العامة للآثار والمتاحف بمخاطبة منظمة «اليونيسكو» والانتربول الدولي وزوّدتهم بكل الصور والمعلومات والبيانات عن القطع، حرصاً على عدم تهريبها خارج سوريا. ضبطت السلطات المختصة كميات كبيرة من القطع الأثرية على الحدود قبل تهريبها إلى دول مجاورة تأتي في مقدمتها لبنان. بدورها ضبطت السلطات اللبنانية العديد من التجار اللبنانيين وفي حوزتهم قطع أثرية سورية، ويتم العمل على تسليمها للسلطات السورية.
تكمن المعضلة الكبرى في الحدود التركية. يجري إخراج القطع الأثرية من الرقة إلى الأراضي التركية، سماسرة محترفون يشرفون على تهريب الآثار. الطريق أقصر إلى تركيا منه إلى لبنان أو العراق، نحو 95 كلم، وأكثر أماناً تحت سيطرة كتائب المعارضة المسلحة. الحدود مفتوحة، والمال سيد الموقف عند أي طارئ.
حسن، طالب جامعي، جاء للعمل في منشرة للرخام في ضاحية بيروت الجنوبية، يتحدث عن التنقيبات الجارية في تلال ومغاور قريته شمال الرقة، ويقول: «إن معظم المواطنين وجدوا في الفلتان الأمني فرصة لاستثمار كل ما يُمكن استثماره في ظل شراكة حقيقية مع كتائب المعارضة المسلحة. يجري نبش التلال الأثرية في شمال الرقة. وتتعرض قرى الرحيات وحزيمة وغيرها من المناطق الأثرية إلى حملات واسعة تُنفذ بشيء من السرية، وبحماية من قادة بعض الكتائب».
بدأ موسم التنقيب مُبكراً هذا العام في مختلف المواقع الأثرية في محافظة الرقة. تتشارك الكتائب مع بعض المواطنين وشخصيات مسلحة بارزة في التنقيب والتهريب والبيع. عشرات المواقع الأثرية تتعرض لانتهاكات، وعشرات المواقع بعيدة لا يعرف أحد ما يحدث فيها، لكن الأنباء تواترت حول تنقيبات ممنهجة مستمرة ليلاً ونهاراً.
يتحدث مواطن لبناني لـ«الأخبار» عن زيارته إلى الرقة بحثاً عن قطع أثرية يُمكن الاستفادة منها. «وصلت الرقة بعد رحلة شاقة، تنقلت بين قرى الحمام، وكديران، وهنيدة، التقيت تاجراً عرض عليّ عشرات النقود الذهبية، اكتشفت لاحقاً أنها زائفة». ويضيف: «لم اشتر القطع، في النهاية هي غير حقيقية، لا فائدة منها».
متحف الرقة الواقع وسط المدينة استطاع أهلها حمايته حتى اللحظة، وهو الآن تحت سيطرة لواء «أمناء الرقة». يضم اللواء عدداً من أبناء الرقة الذين أخذوا على عاتقهم حماية ما يُمكن حمايته من منشآت حكومية استراتيجية.
نجح الأمناء في ذلك إلى حد ما بمساعدة بعض وجهاء المدينة، وفقدوا معظم عناصرهم في اشتباكات مع كتائب أخرى حاولت نهب ما تبقى من موارد «الإمارة».