دمشق | في أحد فنادق دمشق من فئة خمس نجوم، لا بد أن يثير انتباهك مشهد إعداد القاعة الفخمة لاستقبال حفل زفاف باذخ، ينسيك بمجرد الاطلاع على الاستعدادات فيه أن في الخارج حرباً تدور، وأزمات اقتصادية وسياسية تعاني منها غالبية السوريين. لكن أصحاب تلك الحفلات الباذخة بالتأكيد «لا يعيشون تداعيات الحرب والحصار ولم ينتموا يوماً إلى الغالبية التي ترزح اليوم تحت وطأة ارتفاع الأسعار وصعوبة تأمين لقمة العيش»، بحسب أحد الحاضرين.وبعيداً عن الفئة المخملية، القادرة على صرف مبالغ مالية كبيرة لمراسم حفل الزفاف، وربما دفع مهر زواجها بالدولار، ما زال الزواج في سوريا، منذ اندلاع الأحداث، يشكّل هاجساً لدى غالبية الشباب الذين يجدون أنفسهم أمام استحقاق صعب، فيه تحديات كثيرة تجعلهم مترددين في الإقدام عليه. فمن جهة «الحياة لا بد أن تستمر والعمر لا ينتظر»، لا سيما مع عدم وضوح أي زمن معين لانتهاء الحرب وحل الأزمة، مقابل ظروف أمنية واقتصادية «كارثية» تزداد صعوبة يوماً بعد آخر، لا يستطيع، في ظلها، معظم السوريين تأمين احتياجاتهم الأساسية لكي يفكروا أصلاً في تكوين أسرة قد يكون مصيرها، في ما بعد، الشارع والتشرد أو الترمل والتيتم.
المصير المجهول لخطوة الزواج في طريق الحرب والحصار، يأتي في الدرجة الأولى من تصاعد العنف واستمرار الأحداث الأمنية وعدم القدرة على تأمين السكن الآمن والمستلزمات الأخرى اللازمة لإنجاحه، نتيجة ارتفاع الأسعار وانعدام الدخل الثابت لفئة الشباب، بالأخص من غير العاملين في الدولة، جراء توقف العديد من المعامل. وهو ما يُصعب على فئة الشباب، التي ازدادت نسبة البطالة فيها إلى نسبة كبيرة، القدرة على اتخاذ قرار الإقدام على الارتباط، وفق ما ترى سحر عثمان، مرشدة اجتماعية ونفسية.
وحسب عثمان، في حديثها مع «الأخبار»، فإنّ من أهم الأمور اللازمة لنجاح الزواج الاستقرار المادي والنفسي. وهما حالياً غير متوافرين كلاهما أو واحد منهما على الأقل لدى كل السوريين، ما يهدد أي علاقة زواج بالفشل. إلا أن إحدى العائلات المهجرة، بسبب الأحداث، من ريف إدلب إلى جرمانا في ريف دمشق، لا يعنيها ذلك الاستقرار، فيما يبدو، فقد زوجت ابنها سامر البالغ من العمر 18 عاماً لابنة خالته 15 عاماً، وذلك لسبب واحد فقط: «منع إحراج العائلة المستضيفة من انكشاف ابنتهم المراهقة أمام ابنهم الشاب».
حالة سامر ليست الوحيدة كما تشير فداء يوسف، ناشطة إعلامية، في تصريح إلى «الأخبار»، لأنّ النزوح فرض حالة من «الزواج الضروري» بين الأقارب، خاصة في العائلات المتشددة التي ترى أن «من الحرام سكن الشاب والفتاة في بيت واحد من دون وجود رابط شرعي»، حتى وإن كانت قرابتهم من الدرجة الأولى وموجودين مع كامل أفراد العائلة.
وسقطت منذ بداية الأزمة، بحسب الناشطة الإعلامية، العديد من الشروط والمتطلبات التي كانت ترهق الشباب المقبل على الزواج، وبالأخص ما كانت تطلبه أسر الطبقة المتوسطة التي حاولت في سنوات ما قبل الأزمة الصعود إلى الأعلى على حساب تزويج بناتها، من خلال طلب الكثير من الذهب والمهر وامتلاك السكن المنفرد والسيارة وجميع التجهيزات الكهربائية، لتعيدها الظروف الراهنة إلى الواقعية والرضى بالقليل، ابتداءً بالاكتفاء بخواتم الزواج فقط، وليس انتهاءً بقبول سكن ابنتهم مع أهل زوجها شرط أن يكون لديه دخل ثابت.
وترى أم توفيق، ربة منزل، أنّ هذا الأمر جاء نتيجة طبيعية لارتفاع أسعار الذهب والتجهيزات الكهربائية وإيجار البيوت ومعظم ما يتعلق بتجهيز العروس التي بات حفل زفافها مشابهاً لما كان يقوم عليه في السابق، مشيرة إلى أنّ سعر الغرام الواحد من الذهب يصل إلى 7500 ليرة، بعد أن كان لا يتجاوز قبل الأزمة 2000 ليرة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى التجهيزات الكهربائية التي ارتفع سعرها بما يزيد على 200 في المئة.
ارتفاع الذهب وتجهيزات البيت ليس ذا أهمية في هذه الأيام، وفق الشاب رامي عبد العزيز، فهي لا تعني شيئاً أمام الالتزامات الأخرى من تأمين الموارد المالية للأطفال إلى مواد الغاز والمازوت التي إن وُجد المال فقد لا تتوافر في كثير من الأحيان، ليتساءل بعدها عن كيفية إقدام أي عاقل على الزواج، في ظل احتمال تهجره من منزله.
ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى العائلات التي امتنعت عن فكرة تزويج بناتها في بداية الأحداث، منتظرة عودة الهدوء إلى البلاد، فقد أجبرت مع مرور الوقت على تقديم التسهيلات الكبيرة رغم زيادة الصعوبات الاقتصادية والمعيشية غير المسبوقة، لأن الأمور ستزداد صعوبة، بحسب ريهام العودة (23 عاماً)، المتخرّجة في اختصاص مكتبات ومعلومات، والتي تشير إلى أن الفتاة السورية اليوم يلاحقها «شبح العنوسة» و«بَس بدها تتزوج»، مستندة إلى تجربة إحدى صديقاتها التي وافقت على خطوبة شاب لها من دون شروط، وتزوجت به قبل مرور شهر، لأن أعداد الشباب في البلاد تقل يوماً تلو الآخر، «فمنهم من استشهد أو سافر والبقية ينتظرون دورهم».
وللانتظار، برأي رزان عمران، خريجة إعلام، دور كبير في عزوف عدد من الشباب والشابات عن الزواج أو تأجيله، لا سيما لدى الآلاف من الشباب الذين التحقوا بخدمة الاحتياط في الجيش العربي السوري أو انخرطوا في ساحات القتال والموت. لتوضح بعدها أن الظروف الحالية «قتلت الكثير من قصص الحب وأجهزت على خطط العشاق التي رسموها معاً للمستقبل».
الظروف ذاتها مرّ بها الشاب خالد الذي خسر خطيبته بسبب الانقسامات السياسية والطائفية التي أحدثتها الأزمة في سوريا، ورفض بعدها خوض التجربة مجدداً، لأن ما تشهده البلاد، بحسب رأيه، غير مشجع على تأسيس أسرة يخشى أن يكون فيها الأطفال لاحقاً أيتاماً أو ضحايا لمستقبل أسود لا يعرف أحد متى وكيف سينقشع ظلامه. وهو ما يخالفه فيه الشاب فادي المرتبط منذ سنة ونصف السنة بحبيبته، بعد أن هربا معاً وتزوجا، من دون موافقة أهليهما بسبب اختلاف الطوائف، مفضّلين اختيار ما يجمعه الحب على الرضوخ لما تفرقه الحرب وفتنة الإعلام.
الخوف من الحرب المشتعلة في البلاد، والقلق من المستقبل في ظل التقارير الاقتصادية السلبية عن الوضع في سوريا، لا يخيفان ديار ماجد، الموظف الحكومي الذي يكمل استعداداته لحفل زفافه بعد أيام، لأنه «لا بدّ للشباب من صناعة الفرح والمستقبل بأنفسهم ومواجهة المجهول مع شريك الحياة».
وحسب ديار الذي لا يخفي تلقيه الدعم المادي من إخوته العاملين خارج سوريا، فإن إقدامه على الارتباط خطوة جبارة كان سيفعلها تحت أي ظرف، مشيراً إلى أن صعوبات الزواج في هذه الأيام إضافة إلى التكاليف المادية تتمثل في تقطيع أوصال المناطق وصعوبة التنقل. ولذلك فإن أغلب حفلات الزفاف تقام بشكل محدود وتقتصر على أهالي العروسين ومن دون مبالغة في المظاهر الاحتفالية.
ولا يرى مروان محمد، المتابع لشؤون الاقتصاد الاجتماعي، أن شروط الزواج ومتطلباته من الناحية الاقتصادية والاجتماعية متوافرة اليوم في سوريا، وذلك لأن غير الموظفين ليسوا قادرين بتاتاً على تأمين متطلبات المنزل الأساسية، في حين ستزداد أعباء الموظفين الذين لا يمكن المراهنة على رواتبهم المتآكلة بسبب التضخم واستمرار ارتفاع الأسعار.
ويحذر محمد من خطورة تأخر السوريين في الزواج، الأمر الذي سيهدد «نسبة الفتوة في المجتمع» لمصلحة زيادة كبار السن، وهو ما سينعكس لاحقاً على الحركة الاقتصادية في البلاد، معتبراً أن على الحكومة الإسراع في تطبيق الآلية التي تتحدث عنها، لإيصال الدعم والمبالغ المالية إلى الفئات غير العاملة في الدولة لتشجيع الشباب على الزواج.
وإلى أن تضع الحرب أوزارها، تمر سنوات شباب سوريا دون عودة، مخلّفة على وجوههم خطوطاً وتجاعيد لأزمات وأحداث، أجبرت بعضهم على العزوف عن فكرة الزواج، في حين دفعت الحالة الغيبية التي يعيشها بعضهم الآخر المتخوفين من «موت مجاني» بقذيفة هاون طائشة هنا أو انفجار غير محسوب هناك، إلى الإسراع في الارتباط بمن يحبون وتمضية ما تبقى من عمرهم مع شريك يحلمون معه بطفل يحمل اسمهم ويكون عوناً للشريك الآخر في حالة مغادرة أحدهما الحياة.