بعد تأخر دام أكثر من عامين لأسباب أمنية وسياسية، حزم أخيراً الرئيس السوري بشار الأسد أمره، وأعطى الضوء الأخضر لعقد المؤتمر الحادي عشر للقيادة القطرية لحزب البعث. وبحسب «مصطلحات البعثيين»، انتهى المؤتمر إلى «نتيجة تاريخية» تمثلت في تغيير قيادته المنتمية إلى بيئة الحرس القديم، وذلك لمصلحة انتخابه قيادة جديدة شابة. وثمّة ميل واسع داخل «البقية» من قواعد البعث للنظر إلى ما حصل على أنه «انقلاب أبيض» داخل الحزب. أحد أعضاء القيادة القطرية الجديدة، يصفه بأنّه أكثر من «حركة تصحيحية» وأقل من «فايسبوك بعثي».
وبغض النظر عن التسميات الآنفة، ومبلغ حجم الواقعية فيها، فإنّ المؤتمر القطري الـ١١، يمثل علامة فارقة من ثلاث زوايا على الأقل؛ ظروف انعقاده من ناحية، وإسقاط قيادته التاريخية ثانياً، والرهان الذي وضعه الأسد أمام قيادته الجديدة، ومفاده إمّا النجاح جماهيرياً، وإلا فمؤتمر جديد وانتخاب قيادة جديدة.

توقيت الانعقاد

ويكشف مصدر سوري مطّلع على أعمال المؤتمر أنّ الإعداد لعقده واجهته تعقيدات شتى. برز بدايةً التعقيد الحزبي ذو الصلة بمراعاة ضوابط النظام الداخلي للحزب. وكان مطروحاً ثلاثة خيارات:
١) الدعوة إلى مؤتمر قطري عادي، مع ما سيترتب على ذلك من تحديات أمنية تفرضها ظروف سوريا الراهنة؛ ٢) الدعوة إلى مؤتمر قطري استثنائي على شاكلة مؤتمرين سابقين (الخامس والسابع)؛ ٣) الدعوة إلى اجتماع موسع للجنة المركزية تنتخب قيادة جديدة. وكان الخيار الأخير هو الأفضل، لأنه لا يتناقض مع قوانين النظام الداخلي، ولا سيما أنّ المندوبين الـ ٨٠٠ له منتخبون أصلاً من المؤتمر الـ١١، كما أن اجتماعهم يمكن تأمين ترتيباته بمنسوب منخفض من الأخطار الأمنية. ومع ذلك، فإنّ مكان المؤتمر خضع لدراسة أمنية معقدة: «لقد حُدّد ١٣ مكاناً افتراضياً ليعقد المؤتمر فيها. وحينما صعد أعضاؤه الحافلات التي نقلتهم إلى مكان الانعقاد الفعلي، وجدوا أنفسهم في المكان الرابع عشر»، يروي المصدر.

كلمة الأسد

قدّم الرئيس الأسد، خلال جلسة المؤتمر، مداخلة استمرت ساعة وثلث ساعة، توزعت على المحاور التالية: أ ــ عرض الوضع الحزبي من المؤتمر السابع حتى اللحظة الراهنة؛ ب ــ الرؤية المستقبلية للحزب، وتفصيلاً، ماذا يجب أن يكون دوره وما هي معالم الخطة الجديدة لتفعيله؛ ج ــ الوضع السياسي الداخلي والخارجي؛ د ــ الاقتصاد ورؤية الدولة إليه.
وبحسب المصدر السوري عينه، فإن الأسد كان شفافاً في مقاربة دور الحزب في سوريا الغد وممارسة نقد ذاتي له. وأمهل القيادة الجديدة فرصة من ستة أشهر حتى عام واحد لكي تثبت أنها جديرة بإثبات حضورها بين الجماهير، وبقدرتها على المنافسة لاستقطاب قطاعات المجتمع وشرائحه، وإلا فإنها ستكون محل مساءلة وتغيير.
ويوضح المصدر أنّ الحزب يواجه مشكلة علاقة الجيل الجديد من الشعب السوري بالدولة. فلقد أدت تداعيات الحرب الثقافية والوطنية إلى جعل سوريا تخسر جيلها الراهن، نتيجة تلوث تفكير قسم كبير من أفراده بنظريات الفكر السلفي التكفيري. ولم يبق أمام أفراد شرائحه سوى خيارين اثنين: الموت أو الفرار من البلد، بالنسبة إلى فئة منهم ما عادت ترى امكاناً للعودة إلى الوراء لجهة التصالح مع الآخر في المجتمع؛ العودة بالنسبة إلى الفئة الأخرى إلى حضن الوطن والدولة والتأقلم مع عملية إعادة التأهيل الوطني والاندماج مجدداً في الحياة العامة مستحيلة.
ويعدّ الأمر الآنف، والكلام دائماً للمصدر السوري، أخطر النتائج التي ستتركها الحرب وراءها: أي خسارة الجيل السوري الحالي وتحوّله إلى نوع من الحالات الاجتماعية المرَضية المحتاجة إلى علاج تنشئي.
يضيف إن سياق هذا التفكير المتصالح مع منطق الاعتراف بوجود هذه المشكلة، يجعل القيادة السورية تركز في عملية إعادة بناء الانسان على الجيل التالي، ذي الفئات العمرية ما دون الـ١٥ عاماً. هؤلاء هم قضية الدولة الأساسية، وأيضاً، المهمة المركزية لحزب البعث بحلته القيادية الجديدة التي تحررت من طبقة «الحرس القديم».

رسائل الأسد

ويلفت المصدر إلى أنّ انعقاد المؤتمر، في هذا الوقت، يفيد في اطلاق أكثر من رسالة؛ أولاها أنّ الرئيس الأسد قوي لدرجة أنّه لا يتوسل مساندة أو استرضاء أي جناح داخل السلطة، بدليل رفعه الغطاء عن عملية اسقاط جهابذة المرحلة الماضية في النظام والحزب، أمثال الأمين القطري العام المساعد أبو سعيد بختيان. الرسالة الثانية تتمثل في صياغة جديدة للحزب تشبه رؤيته لصياغة سوريا الغد. فقيادة الحزب الجديدة شابة بمعظمها، وتنتمي إلى قواعد بعثية لم تتساقط خلال فترة الأحداث الراهنة، وذلك ليس فقط على مستوى استمرارها على التزامها العقائدي الحزبي، بل بالأساس على مستوى قيامها بمهمات الدفاع عن الدولة داخل محيطها ووسط قطاعاتها.

بعث الغد

ويكشف المصدر عينه أنّ عدد البعثيين المسجلين في السجلات الحزبية الرسمية، قبل الاحداث، بلغ خمسة ملايين عضو. وعلى مر العامين الماضيين تضاءل عددهم ليستقر على مليون وسبعمئة ألف حزبي. وتدلّل إحصاءات حزبية تقريبية على أنّ ٧٠ بالمئة من بين هؤلاء الأخيرين كان لهم حضور تفاعلي وإيجابي خلال الأحداث ضمن مناطقهم وقطاعاتهم، ما منحهم علامة الجدارة الحزبية. ويقارب عدد هؤلاء الـ ٦٠٠ ألف حزبي ينتمون إلى مختلف أطياف المجتمع ومناطقه، وقد وزع عليهم منذ أشهر السلاح، وباتوا يمثلون المادة الاجتماعية الأساسية لجيش الدفاع الشعبي المساند للجيش في عملية الدفاع عن سوريا.
ويكشف المصدر السوري أنّ إعادة بناء الحزب ستستند إلى استنتاجين أساسيين أفرزتهما المراجعة النقدية لتجربته، انطلاقاً من عِبَر الأحداث الراهنة: أولهما أنّ الحزب على مدى السنوات الماضية، تخلى عن دوره في مجال التعبئة العقائدية بين الشعب السوري، ما جعل الحصانة الوطنية لدى الجيل الجديد (من ١٥ لغاية ٣٠ سنة) أقل متانة من الأجيال السابقة، التي كان البعث يواكبها بالتعبئة الوطنية منذ دخولها المدارس الابتدائية، حيث تستوعبها شُعب الطلائع حتى دخولها مرحلة الثانويات والجامعات لتجد بانتظارها هناك شُعب الفتوّة. لقد تضمنت مناهج التدريس في تلك الفترة حصة إلزامية بعنوان التنشئة، وهي عبارة عن تدريب عسكري وتعبوي عقائدي وطني. كل ذلك جرى التراجع عنه في السنوات الأخيرة لمصلحة ليبرالية في التعليم، جعلت المدرسة الخاصة تتقدم على المدرسة الرسمية، وجعلت الانكليزية لغة أساسية مقابل تراجع الاهتمام المطلوب باللغة العربية. كان الظن من وراء ذلك أنّ المجتمع يتقدم باتجاه حصوله على حاجات عصرية، لكن يتبين الآن أنّ سياسة الدولة لم توازن بين حاجة المجتمع إلى التكيف مع متطلبات الحداثة، واحتفاظه بقيم تنشئته القومية والوطنية.
الاستناج الثاني، وهو استدراك للأول، يتمثل في ما ساد الحزب من حالة ترهل واستمراء لممارسة سلطة مرفهة. الآن يضع الأسد الحزب أمام معادلة جديدة، قوامها أنه لم يعد بعد الغاء المادة الثامنة الحزب الحاكم، وأصبح سواسية مع باقي الأحزاب الأخرى، والطريق الوحيد أمامه لإثبات وجوده، ونيل أي امتياز، مرهون بقدرته على إقناع الشعب به وتثمينه لإنجازاته المنتظرة. والسؤال الذي تركه المؤتمر الأخير وراءه: هل ينجح الحزب في اجتياز هذا التحدي؟!
(غداً: الحرب الاقتصادية)