النقب | خطة برافر لمصادرة أراضي بدو النقب في فلسطين المحتلة عام 1948 لن تمرّ؛ فالتظاهرات مستمرة والاحتجاجات متواصلة.
يوم أول من أمس، قطعت التظاهرة في النقب مسار الدقائق الخمس حتى انقسمت. أو لنقل اتخذت لها مركزين: الغالبية الشابة أغلقت أحد مسارات الشارع، والآخرون دخلوا حيث حدّد لهم التصريح «الرسمي» من سلطات الاحتلال الإسرائيلي أن يحضروا.
كل هذا ونحن نتحدث عن عدد متواضع من المتظاهرين، قياساً بالتوقعات المعلّقة على «يوم غضب» شاركت في إعلانه جميع الأحزاب والحركات السياسية بين جماهيرنا العربية. إعلان كهذا يُفترض به أن يجنّد هنا الألوف وأكثر، لا بضع مئات.
قبل دقيقتين كان أحد منظمي تظاهرة الغضب على مخطط برافر، في مدينة بئر السبع جنوباً، قد أعلن رفض الدخول إلى الباحة المُحاطة بالحواجز الحديدية التي أنشأتها الشرطة، التي سمّاها «زريبة»، ودعا إلى التجمهر قبلها، لا داخلها. لكن شباب التظاهرة كان لهم رأي آخر: «ما قبل قبل الزريبة»... في الشارع.
الشرطة سمعت برفض الدخول إلى المحيط المسيّج بالحديد، وشوهد عناصرها للتوّ يحدّدون «ما قبل الزريبة» بأشرطة بلاستيكية حمراء مع رمز الشرطة، كأنها تقول: «هذه حدودكم يا عرب».
شيخ العراقيب (القرية التي هدمها الاحتلال عشرات المرات وأصرّ أهلها على البقاء) المناضل أبو عزيز صياح الطوري، وقف بجانب حلقة الشباب المتربعة بصخَب في الشارع، قائلاً: «هذه رسالة إلى الحكومة الإسرائيلية من كل الجماهير العربية. نرفض دعاية تطوير النقب، هدف برافر سلب الأراضي بالاحتيال».
الشيخ صياح يشكر ويحيّي كل من شارك ويشدّد: «جميعنا مستهدفون. كل العرب في البلاد. لا فرق بين مسلم ومسيحي ودرزي، كلنا عرب في النهاية».
بعد نحو ربع ساعة يقع الحسم. التظاهرة ليست في الباحة الداخلية، هناك تقف مجموعات صغيرة متناثرة تتبادل الحديث. التظاهرة هنا، في الشارع، الأدقّ على رصيفه ومساره الأيمن المحاذي لمقر «سلطة توطين البدو»، أي مصادرة أرضهم ومحاصرتهم في «بلدات حديثة».
معظم الأصوات التي تقود المتظاهرين بالهتافات هي أصوات نساء شابات. الهتافات التي تؤكد رفض برافر سرعان ما يتسع مدى احتجاجها، جغرافياً وتاريخياً. تتدرّج صاعدة: «من النقب لسلوان الفلسطيني ما بينهان... من النقب لغزة شعبنا رمز العزّة... فلسطين بلادنا ومش بس الضفة وغزة». وهناك من رفع شعار: «فليسقط غصن الزيتون».
أحد كبار السنّ يروح ويجيء، وقد بدا عليه القلق ويدعو بصوت منخفض: «تعالوا نفوت جُوّا». هو يتصرّف من منطلق سلامة الضيوف وكرامتهم، يخاف أن يتعرضوا لاعتداء الشرطة.
بعد أقل من ساعة، بدأ تململ في صفوف الشرطة التي أحاط عناصرها «حرس الحدود» بالمتظاهرين، مدعومين بالخيول؛ فرس تمتطيها شرطية شقراء الشعر. مشهد لا يبثّ شيئاً عن اعتلاء المرأة مكانة قويّة جديدة، بل صورة لمسخها بدور العنيف السلطوي والذكوري.
كالمتوقّع بدأ الانفلات البوليسي. عناصر «حرس الحدود» في سلسلة متكاتفة تدفع المتظاهرين بعنف وتفتح مجالاً للدّواب البوليسية. صدامات محدودة وإصابات في صفوف المتظاهرات والمتظاهرين بعضها ينتهي بدم ينزف. واعتقالات تطاول 14 شابة وشاباً بينهم قاصرات.
عناصر الشرطة الذين يفصلون المتظاهرين عن الشارع، في نفس أعمارهم تقريباً. ترى هؤلاء من دون الزي الأمني: ماذا يفكرون عن العربي؟ أين هم سياسياً؟ هل يؤيدون الحقوق المتساوية والعادلة للمواطنين العرب؟ هل يضعون معتقداتهم جانباً حين يرتدون الزيّ الأمني والدروع الواقية والخوذات ويحملون بنادق قذف الغاز وسائر الأسلحة؟
هنا تعود إلى الذاكرة ما كتبته «لجنة أور» في تقريرها عن هبّة أكتوبر 2000: «هناك حاجة لإحداث انقلاب مفاهيمي في تعامل الشرطة مع المجتمع العربي... من المهم العمل على اجتثاث الآراء المُسبقة السلبية التي وُجدت حتى عند ضباط شرطة قدامى يحظون بالتقدير، تجاه المجتمع العربي. يجب أن يكون الهدف تذويق الإدراك عند أفراد الشرطة، بأن الجمهور العربي عامة ليس عدواً لهم ولا يجب التعامل معه على أنه عدو».
هل تغيّر شيء منذ توصيات هذه اللجنة برئاسة قاضي المحكمة العليا قبل أكثر من عقد؟ سلوك الشرطة هنا وفي سخنين لاحقاً في ساعات مساء هذا اليوم، لا يدلّ أبداً على تحسّن في حالة المريض. بالعكس!
في المساء، حين تعدّ تقديرات عدد المتظاهرين في شتى المواقع، المركزية الثلاثة (بئر السبع، سخنين ووادي عارة) وسائر المواقع، ستشعر بالتشاؤم لو حسبتها «بالأرقام الجافة».
يجب أن نكون صُرحاء: حدث اسمه «يوم الغضب» لجماهير يفوق عددها مليون إنسان، لا يُعقل أن يقتصر عدد متظاهريها على 3 آلاف في أفضل الأحوال! هناك خلل ما.
قلة العدد لم تناقض المضمون النوعي للاحتجاج. وقد اشتمل على إغلاق شوارع، نعم. وربما يرى البعض في هذا مبالغة، لكنه فعل شديد الأدب في مقابل مخطط مصادرة وترحيل بهذه الوحشية، تتكتّم عليه الغالبية الساحقة من وسائل الإعلام العبرية. هذا التواطؤ السلطوي - الإعلامي لن تكسره تظاهرة تقليدية ولا رفع شعارات هادئة. قرار الشباب إغلاق شوارع، من خلال تأكيد السلمية التامة وممارستها، هو الردّ «الواقعي» على جريمة مُحاطة بصمت إعلامي عبري يشابهها في الإجرام. المعركة لم تنته، بل بدأت فعلياً الآن.
بالمناسبة، نهاية المشهد الأخير في بئر السبع كانت كالآتي: بعد اختتام التظاهرة بقي معْلمان بارزان: مئات الملصقات أبيض على أسود (نيغاتيف) كتب عليها: «كلنا العراقيب»! وبالمقابل: كومة من روث دواب البوليس؛ فكل إناء ينضح بما فيه ويترك البصمة التي تليق به وبوجهه.