دمشق | يقاتلون على جميع خطوط النار. الموالي للسلطة يرى فيهم أبطالاً ملائكيين، ويعتبرهم حُماة الوطن. والمعارض يصفهم بالوحوش والقتَلة والطائفيين. لكن لا أحد يبحث في أعماق هؤلاء المقاتلين. ولا أحد معنيّ بقراءة دواخلهم وما يشعرون به أمام نداء الواجب، وهم المنتمون إلى كل بقعة من الأرض السورية. بالنسبة للسُّلطة، هم مجرّد أرقام لتحقيق مكاسب سياسية لاحقة، أو إحراز انتصارات ضد أطراف خارجية تدعم أدواتها داخل البلاد.
والمسؤولون غير معنيين بضرورة تحسين ظروف هؤلاء الشبّان، فآخر ما يهمّ رجال السياسة وكبار العالم ما يشعر به مقاتل كئيب في جيش لدولة يحاربها العالم على أرضها. يروي حسين، أحد المقاتلين على خطوط النار في ريف دمشق المشتعل، فصول مأساته. خدمة إلزامية فاقت ثلاث سنوات، لم تترك له أملاً في الحياة. الشاب الذي هرع تلبية لنداء الواجب، والمقدّر بمدة ثمانية عشر شهراً، قد أصبح معزولاً عن أي علاقة بالعالم الآخر والمقيمين فيه خارج دائرة المعارك اليومية. يقول الشاب: «توقفت الحياة هُنا بالنسبة لنا. بتنا نشعر أننا لن نخرج من هُنا، إلا إذا استشهدنا أو أصبنا بالشلل». يضحك حسين عند سؤاله عن الميزات التي يتمتع بها العسكريّ المحتفظ به، حيث لا يعتبر ما يناله، بحكم أقدميته في الخدمة، مميزات. ويثير قضية الوضع المادي السيئ لدى المقاتلين الميدانيين، إذ إن كل إجازة ينالها المقاتل ستكلّفه مبلغ 3000 ليرة، وهو مبلغ لن يكفي إلا نفقات الطريق لزيارة الأهل. أما مصاريف الطعام والشرب والتدخين، فهي همّ آخر بالنسبة لعناصر الجيش. سوء المعاملة، أحياناً، توازي كل المبالغ المدفوعة بالنسبة لحسين ورفاقه، فالشكاوى مستمرة بين حين وآخر من عدم تقدير تضحيات الرؤساء للمرؤوسين، ما يولد لدى الأخيرين انعدام الأمل وزيادة الإحباط. «البعض يهربون من خدمة الجيش بكل الوسائل الممكنة. لا يقاتل هُنا إلا الفقراء. نشعر أحياناً أننا الوحيدون الذين عليهم دفع الثمن»، كلمات قاسية يرويها أحمد، رفيق سلاح حسين، فتختصر الوضع الاجتماعي السوري خلال الحرب القائمة. ويتابع قوله: «تكفينا خدمة ثلاث سنوات. لماذا لا تؤخذ حالتنا النفسية بعين الاعتبار، ويتم تسريحنا عدة أشهر نستغلّها في الإحساس بالانتماء للعائلة والأولاد، ثم نُطلَب إلى قوات الاحتياط من جديد، مزوّدين بمعنويات عالية للدفاع عن وجود من نُحبهم وننتمي إليهم، بدل الإحساس الدائم بالغربة المضاعفة؟». اعتبار الشبان أرقاماً، أمر يزعج أحمد الذي يقول: «منموت بيجيبو غيرنا، وهيك بتتابع دورة الحياة». المطلوبون إلى الاحتياط يأتون بهم من بين عائلاتهم وأزواجهم وأولادهم، بحسب أحمد، ومعظم هؤلاء منهكون بالقروض المالية، ومهددون بالحجز على منازلهم أو سياراتهم بسبب المبالغ التي تطالبهم بها المصارف، دون أدنى مراعاة لظرفهم العسكري الصعب أو تضحياتهم اليومية. يبتسم الشاب متسائلاً: «عن أي ميزات تتحدثين بعد كلّ هذا؟». ويتساءل مجدداً حول الآلية التي يجب اتباعها من قبل شبّان الجيش من أجل محاولة العودة إلى الحياة الطبيعية ما بعد انتهاء الخدمة، في ظل التوتر الدائم والغربة المستمرة والكآبة الحالية التي يقابلها عندما يرى الناس يتابعون حياتهم غير آبهين برجال، على المقلب الآخر، يستشهدون فداء لقضية وجود شعب كامل. ويرى الشاب، الذي قاتل على كل جبهات ريف دمشق الساخنة، أن آلام الجنديّ السوري مهمّشة، وظروفه الصعبة لا تعني أحداً حتى من يؤيدونه. «لماذا لا تهربون إذاً؟» سؤال صدم أحمد، فجاء جوابه واضحاً متعقّلاً: «لأننا نقاتل من أجل قضية عادلة، وراضون بأن نكون قرابين ليعبر فوقنا الأبرياء ممن يستحقون الحياة أكثر منّا. نحن لا نقاتل من أجل المسؤولين أبداً».
تصارع اليأس والأمل في أعماق الجنديّين، يقابله اندفاع جنود سوريين آخرين في مناطق أقلّ توتراً. ففي منطقة عسكرية هادئة من ريف دمشق، يقضي المجند يوسف (اسم وهمي)، من منطقة الباب في حلب، أيامه ولياليه. الشاب الجامعي من المحتفظ بهم بعد انتهاء خدمتهم الإلزامية أيضاً. سنة وتسعة أشهر مضافة إلى خدمته السابقة لا يعرف متى تنتهي. سنتان مضتا من المدة دون أن يزور مدينته أو يرى ما حلّ بها. يكتفي بمتابعة أخبارها وانتظار أي صورة عبر الشاشة آتية من هُناك. يشتاق لرؤية أهله، وأكثر ما يحزنه أنه لا يستطيع زيارتهم. وخلال فترة وجود أحد أقاربه في دمشق وطلبه زيارته، أصبح يوسف شخصاً آخر، حيث حوّلته الزيارة القصيرة إلى شاب سعيد، لا سيّما بعد اطمئنانه إلى أحوال أهله. فترة انقطاع الاتصالات عن حلب كانت أصعب ما مرّ عليه، إذ تزامنت مع تهجير أهله من منطقتهم وعدم قدرته على الاطمئنان إليهم، ليعرف لاحقاً أن والدته مريضة وتحتاج إلى عملية جراحية. هاجس يوسف الوحيد هو «أن ننتصر»، ويعود إلى التعليم في إحدى مدارس ريف حلب. كلّما نزل أحد رفاقه في إجازة، يطلب يوسف منه جلب الجرائد له. وبما أنه الأقدم بين رفاقه، تبدو الميزات المعطاة له أكثر من غيره، حيث يهتم الجميع بيوسف النشيط والملتزم عسكرياً، وكلمته مسموعة لدى ضباط يطلبون رأيه أحياناً. كما أنه معفى من بعض المهام البسيطة كالاجتماع الصباحي ودرس الرياضة. لا يبدو أن الاحتفاظ مؤثر في حالة يوسف النفسية بشكل سلبي، إذ يبدو متصالحاً مع وضعه، ومقتنعاً بضرورة الصبر. راتب المجنّد جيد، كما يراه بعض الجنود، ما يعينهم على مساعدة أهاليهم في هذه الظروف الصعبة، ولا سيّما في بعض القطع العسكرية التي لم تشترك في القتال على نحو مباشر، حيث يقيم فيها عناصر الجيش آمنين. مساعدة الأهل مالياً في ظل هذه الظروف أمرٌ لا يستهان به، كما يذكر جنود آخرون، حيث يعرف جميع العسكريين أنهم ما كانوا ليجدوا عملاً ضمن الظروف الحالية، فيما لو تسرّحوا. راتب المجنّد الذي يقدّر بـ 10700) ليرة، ويصل إلى 15 ألفاً بعد الزيادة التي لم يقبضها أي مجند حتى الآن، يضمن له أن يكون مشاركاً في إعالة عائلته المقيمة بعيداً. وكذلك راتب صف الضباط الذين تصل رواتبهم إلى 19 ألفاً بعد الزيادة، التي من المتوقع أن يقبضها الجميع ابتداءً من الشهر المقبل. ورغم الدعم المادي المُقنع بالنسبة إلى كثير من الجنود إلا أن التسريح يبقى هاجسهم الوحيد، بالإضافة إلى الأمل بانتهاء الأزمة.
الإجازات هي أكثر ما يؤرق العناصر، وهي الهمّ الأول لأبناء المناطق الساخنة، ما يثير حساسيات أحياناً مع بعض أبناء الساحل الذين ينالون إجازات بين الوقت والآخر. يقول أحد المجندين: «الطائفية كانت تفسيرنا الوحيد لمعرفة سبب حرماننا من الإجازات ومنحها لسوانا، إلا أن نزوح عائلات بعضنا من حلب، إثر توتر أوضاعها، إلى اللاذقية، جعلنا ننال بعض الإجازات أسوة برفاقنا من أبناء الساحل، ما قضى على التفسير الطائفي الذي راودنا سابقاً». الجنود الذين فتحوا قلوبهم للحديث عما يختلج داخلهم من هواجس وشكاوى يعلمون جيداً، حسب قولهم، أن كلامهم سيقابله امتعاض الآخرين، على اعتبارهم رجالاً يقومون بواجبهم، وأن الدول تنتصر بسواعد الرجال، إلا أنهم لم يروا ضيراً من وقفة صدق لمواجهة آلامهم أمام الآخرين، عسى أن يصل صوتهم إلى المعنيين.