هلَّ شهر رمضان على الرقيين، وهو مختلف عن أي عام، بائع التمر الهندي في ساحة الجلاء «الساعة» وسط المدينة يبدو غريباً فقد طالت ذقنه كثيراً.
تعجّ الأسواق بالمواطنين، يخرجون صباحاً قبل ارتفاع درجات الحرارة. يقصدون شارع القوتلي، «السوق الشرقي» الأكثر شعبية في المدينة، المعروف محلياً بسوق «الشوايا»، وهو اسم يُطلق على الأغلبية العظمى من سكان الرقة، نسبة إلى كرمهم ودأبهم على شيّ لحم الضأن وتقديمه إلى الضيوف.
ولّى زمن الشواء، وسيقت أغنام العواس من حظائرها إلى المجهول. كتائب مسلحة جرارة سطت على آلاف الرؤوس من الثروة الحيوانية وغادرت. أصبح تناول وجبة من اللحم حلماً لأهل الرقة.
مواطنٌ رفض الكشف عن اسمه، قال لـ«الأخبار»: «ارتفع سعر الكيلو غرام من لحم الضأن إلى 1100 ليرة سورية، بعدما كان لا يتجاوز في رمضان 500 ليرة. وارتفع سعر كيلو لحم الفروج من 110 ليرات واستقر عند 500ليرة، وحلّق الأرز من 75 إلى 250، ووصل سعر صفيحة الزيت إلى 7000 ليرة يقابلها 1800 في العام الماضي».
ويضيف: «لم يعد هناك أي قيمة للراتب، وسقطت مقولة: البحصة تسند جرة. لا يمكننا الحديث عن 15000 ليرة كمعدل وسطي يتقاضاها الموظف كراتب شهري. حققت أسعار الخضر أرقاماً قياسية، وأصبحت البندورة من الكماليات بالنسبة إلى المواطن الرقّي».
من الرقّة تنطلق قوافل الموظفين في الأول من كل شهر نحو محافظات دير الزور والحسكة لتسلّم الرواتب. تجعلهم الحاجة يتجاهلون مخاطر الطريق.
وأصدرت «الهيئة الشرعية» قراراً أوعزت بموجبه إلى «المجاهدين» على كافة الحواجز ونقاط التفتيش، بمنع أي سيارة تحمل أي مواد استهلاكية (طحين، سكر، رز، زيت، سمنة، خضر، فواكه...) من الخروج من المدينة لأي جهة كانت.
أحدثت الهيئات الإغاثية «الشرعية» والجمعيات الخيرية 15 مركزاً إغاثياً منتشراً في أحياء المدينة المختلفة، تقدم وجبات الإفطار إلى أهل المدينة. 14 مركزاً منها أصبحت مطابخ رمضانية تقدم الأكل مطبوخاً إلى المواطنين، ويوزع مركز وحيد الأطعمة النيئة والمواد الغذائية والسلال الإغاثية واللحوم.
تتوافد النساء والأطفال والشيوخ على المراكز قبل موعد الإفطار بساعات. يقفون في طوابير طويلة وهم ينتظرون الوصول إلى النافذة. يتجاذبون أطراف الحديث، عن الغلاء وسوء الحالة المعيشية، يلعنون الحالة التي وصلوا إليها. لكنهم ينظرون حولهم قبل التفوه بأي كلمة خوفاً من صوت البنادق.

اسقِ العطاش

فكّر أهل الرقة في كل الاحتمالات منذ سقوط المدينة بيد كتائب المعارضة المسلحة. الشيء الوحيد الذي لم يخطر في ذهن أحدهم أن تعطش المدينة. كيف تعطش الرقة وهي «درة الفرات»؟ المدينة التي يخترقها نهر عظيم من أنهار الجنة.
المدينة عطشى الآن، لا أحد يمكنه أن ينكر ذلك. ينقطع الماء معظم ساعات النهار، وإن عاد فلا يتعدى الطابق الأول في الأبنية. وأفقياً لا يصل إلى الأحياء المترامية الأطراف. سرت شائعة في أرجاء المحافظة عن سرقة أكبر مضخات المياه من قبل إحدى الكتائب، تبين لاحقاً أن المسروقات لا تشمل المضخة.
محطة ضخ مياه الشرب الرئيسة في مدينة الرقة أحدثت عام 1966، تصل غزارتها الحالية إلى 8000 م3/ سا قابلة للزيادة حتى 9000 م3/ سا.
يوضح المهندس محمود الموسى، مدير مؤسسة مياه الشرب في الرقة لـ«الأخبار»، «أنّ كمية المياه المنتجة تكفي نحو مليون نسمة، ولا صحة لخبر سرقة المضخة». أما انقطاع المياه، فأسبابه حسب قوله، عائد إلى «كثرة السرقات والتعديات على الشبكة، وخاصة في ظل غياب الدولة والقانون، وسرقة مستودعات وآليات المؤسسة، ومنع الموظفين من تأدية عملهم».
اتخذت كتيبة «أبو النور» مبنى محطة المياه مقراً لها بحجة حمايتها. وأصبح عناصر الكتيبة يضايقون العمال، ويتدخلون في شؤونهم.
لم تعد تحظى المحطة بأي صيانة لعدم توافر قطع الغيار ومواد الزيوت والشحم الحراري بعد سرقة المستودعات.
ويضيف الموسى: «سُرقت التجهيزات الميكانيكية والكهربائية لعدد من المحطات في محافظة الرقة، منها: مهران، جحلان، المشيرفة، السحاميات، القصير1و2 في المنصورة، أبو سوسة في دبسي عفنان، وغيرها».
تقوم اللجنة الدولية للصليب الأحمر بتأمين معظم المواد المعقمة لمياه الشرب في الرقة ريفاً ومدينةً حسب المتوافر. وتحتاج محطات ضخ المنصورة، الهورة، البارودة، الصفصافة، إلى أجهزة منظمة لعمل غاز الكلور، للحد من انتشار الجراثيم في مياه الشرب الواصلة إلى تلك القرى.
ما زال سدّ الفرات بيد المعارضة المسلحة، ويُعد السد من المصادر المهمة للطاقة الكهربائية في سوريا، إذ ينتج نحو 880 ميغاواط ساعة يومياً. إلا أن الظلام الدامس يطغى على سماء الرقة. انقطع التيار الكهربائي عن ريف المحافظة أشهراً طويلة. وعاد إلى ريفيها الشرقي والغربي، إلا أن الشمالي منها ما زال مظلماً.
مثّل انقطاع التيار كارثة لمدينة سُرق معمل إنتاج الغاز المنزلي فيها مع معداته الكاملة على يد إحدى الكتائب. ويعتمد الناس على أواني الطبخ الكهربائية «التركية الصنع»، إذ أغرقت تركيا أسواق الرقة بمنتجاتها.
يُسير شؤون شركة الكهرباء في المدينة قائد إحدى الكتائب. ووُضع برنامج جديد للتقنين. قُسمت كمية الطاقة المخصصة للمدينة على الأحياء، حيث لا تتجاوز عودة التيار ثلاث ساعات في بعضها. سُرقت آليات ومستودعات شركة الكهرباء ونُقلت جميع المعدات الحديثة إلى تركيا حيث بيعت بمبالغ زهيدة.
صراع السلطة
زاد تذمر الناس من حركة «أحرار الشام الإسلامية» التي تصدرت المشهد مع «دولة العراق والشام الإسلامية». اعتقالات تعسفية، شملت ناشطين حقوقيين وإعلاميين، والاعتداء بالضرب على أعضاء المجلس المحلي في مدينة تل أبيض، واعتقالهم نحو أسبوع. وفي ظل رفض أيّ مظهر من مظاهر الدولة المدنية، خرج ناشطون من معتقلات الدولة الجديدة، تحدثوا عن أهوال ما يجري في تلك الأقبية. لمع اسم «أم حمزة» السجانة التي تتولى معتقل النساء في الرقة، لما تقوم به من ممارسات بحق الفتيات المعتقلات.
خرجت تظاهرات منددة بممارسات «الدولة الإسلامية»، تطالب بقيام دولة مدنية. تداعى أنصار حركة «أحرار الشام الإسلامية» وتجمعوا مطالبين بدولة تحكمها الشريعة الإسلامية، رافضين أي دعوة إلى بناء تلك الدولة «الكافرة».
توحدت ألوية المعارضة المسلحة في محافظة الرقة، مكوّنةً «الفرقة 11»، والألوية هي، «لواء ثوار الرقة»، «لواء المنتصر بالله»، «لواء أمناء الرقة»، «لواء الناصر صلاح الدين». تضم هذه الألوية نحو 80% من القوى المقاتلة في محافظة الرقة.
لكن، رأت دولة «العراق والشام الإسلامية» وحركة «أحرار الشام الإسلامية» في هذه الخطوة تمرداً عليها، فداهمت مقر الفرقة الجديدة، وطوق عناصر الفرقة فردّ هؤلاء، لينتهي الأمر بفك الحصار بالتراضي.