حمص | رغم الأحاديث المتكررة عن قرب انتهاء العمليات العسكرية في المنطقة الوسطى في حمص، وهزيمة المعارضة المسلحة منذ ما بعد انتصار القصير وبدء الإعداد لإعادة الإعمار، يبدو أنّ الانتظار لن يكون قصيراً على أعتاب جامع خالد بن الوليد كي يعلن الجيش السوري انتصاراً حقيقياً في الخالدية. ومع تسجيل عناصر الجيش السوري دخولاً إلى المسجد والخروج منه، واعتبار الضباط تقدّمهم هذا نصراً أولياً قاهراً لغرفة عمليات المسلحين العصية في الخالدية، إلا أنّ الواقع الميداني يقول إنّ الجامع يرزح الآن تحت السيطرة النارية للمعارضة المسلحة.
الضابط المختص في غرفة عمليات الجيش السوري وسط حيّ الخالدية يشرح توزّع الجيش السوري المسيطر على معظم أحياء الخالدية وحمص القديمة. بالأحمر تتبيّن الكتل التي سيطر الجيش عليها أخيراً، بالأحمر الغامق تلمح المناطق التي ثبّت الجيش قواته فيها وسيطر عليها منذ مدّة. أما بالأحمر الفاتح، فتجد مناطق ملونة حديثاً، وهي صغيرة نسبياً، بين المساحات السابقة والمساحات غير الملوّنة التي يسيطر عليها مسلّحو المعارضة، وهي ترمز إلى المناطق التي عادت إلى سيطرة الدولة خلال اليومين الأخيرين. المساحات غير الملوّنة تبدو وسط الخريطة على شكل مستطيل طولي مفتوح على بساتين ومزارع تؤدي إلى منطقة الوعر، حيث تتركز أعداد كبيرة من المسلحين. يضيق المستطيل، تدريجاً، في المنتصف. وفي منتصفه تماماً الجامع. كتلة جديدة هي التي سيطر عليها الجيش السوري، وجرى تلوينها سريعاً إثر دخول عناصر الجيش إلى وسط الجامع. من جورة الشياح، تتقدم قوات الجيش السوري ببطء باتجاه الجامع أيضاً. القوات هُناك قليلة، لا تقارن بحجم القوات من جهة الخالدية، إلا أن إحراز التقدم ضمن كتلة تضم بضعة جدران، جدير بالذكر على اعتبار أن المعركة هُناك أشدّ صعوبة، بسبب تثبيت الطرفين المتحاربين عسكرياً، كلّ ضمن كُتله. «الصلاة الليلة في جامع سيدي خالد»، عبارة يقولها أحد العسكريين. ضابط يقف بالقرب منه، ويرفع حاجبيه بطريقة يُستنتَج منها أن الأُمنية ما زالت سابقة لأوانها، إذ إنّ جولة ميدانية خطرة تثبت ذلك سريعاً. يبادر الضابط إلى القول: «قد تكون الصلاة في الجامع غداً أو بعد غد». يصمت الآخرون أمام العبارة المتعقلة.

سقط الجامع... لم يسقط الجامع

مفارق مفتوحة المجال أمام القنص في شوارع الخالدية المتهدّمة. الركض مقابل الفتحات يحتاج إلى خفض الرأس طوال الوقت، ما يسبب الكثير من الإرهاق، ويجعل احتمال الخطر أكبر. العبور إلى المنطقة المطلوبة باستخدام مدرّعة هو الحلّ الأسلم. المدرّعة تعبر فوق الأحجار التي خلّفها الدمار وتجعل إمكانية الإصابة برصاص القناص معدومة، إنما الحرّ الخانق داخلها يفتح الاحتمالات على قذيفة مشؤومة، تشعل المعدن وتحيل من بداخلها إلى جثث ملتصقة بجدران المدرعة. الوصول إلى الكتلة الأخيرة، حيث سيطر الجيش على الحديقة الخلفية للجامع. «سقط الجامع»، عبارة تسمعها وتسمع نفيها مرات عدة. الحديقة الخلفية مكشوفة على النيران كسائر زوايا الجامع. يلوح الجامع واقفاً على حاله. بضعة قذائف أصابت قبابه، لكنه لا يزال قائماً بما يرمز إليه من بعد ديني وعسكري. لا نيّة للجيش السوري بالقصف المباشر. الأمر يبدو واضحاً من مجرّد محاولة الاقتحام براً، والإصابات المباشرة التي تصيب محيطه. مصدر ميداني يخالف الكلام السابق عن أن الجيش السوري يريد شخصيات محددة، ممن يتحصنون داخل الجامع، على قيد الحياة. كلام المصدر يبدو واقعياً أكثر من الإيمان بأن الدولة السورية تحرص على الحفاظ على جامع يستخدم كواحدة من أشرس غرف العمليات العسكرية الناشطة ضد الدولة في المنطقة الوسطى. المعركة على أبواب الجامع تكلّف الكثير من الدماء. الجرحى يقدرون بالعشرات. شهيد سقط برصاص قناص. لا أحد سيهتم لخبر استشهاد «المتطوّع كرم» الذي وصل إلى أرض القتال منذ أسبوع واحد فقط، وسقط مُحدثاً مفاجأة لرفاقه والضابط المسؤول عنه، الذي كان مهتماً بتأمين سرعة انسجامه في الخدمة. يتأثر الضابط بالخبر، لكنه يتابع الرفاق خلال دقائق تقدّمهم مبتسمين للموت الذي يواجههم أيضاً. لا وقت للحزن هُنا. سقطت ذراعك أو رأسك أو كُلّك، هُناك من سينبري لإسعافك أو دفنك، إنما لكلّ عمله، والمقاتل لن يتوقف تحت أي ظرف. القرار بالتقدّم لن يتوقف تحت أي ظرف أيضاً، و«سنصلّي في جامع سيدي خالد»، بحسب ضابط يقف قريباً من الحديقة الخلفية للجامع. وسائل إعلامية ازدادت حماسة مراسليها، فأذاعت خبر سقوط الجامع بأيدي جنود الجيش السوري، قبل سقوطه بساعات، ما أربك القياديين وأحرجهم ودعاهم إلى سحب الصحافيين من منطقة الحدث. خروج موقت من أرض المعركة، مع وعود لم تبدُ جدّية بالعودة فور تحرير الجامع.
السيطرة على الجامع من الجهة الشرقية لم تكن كافية فعلياً، فقد سمحت للمسلحين بالهرب، ما أبعد عن الأذهان صحة فرضية وجود مطلوبين يريدهم الجيش أحياءً. والعبارة المتكررة على ألسنة ضباط بنيّة الصلاة داخل حرم الجامع، تعيد فرضية عدم تفكير الجيش بضرب المكان ذي البعد الديني المعروف. الجامع فارغ من مسلّحيه الآن، لكنه مكشوف من جميع الاتجاهات، عدا الشرقية، على النار. إنه تحت السيطرة النارية للمعارضة المسلحة، ما يجعل السيطرة الفعلية عليه من قبل الجيش السوري ما زالت حلماً قريباً من التحقيق. محاولة العبور إلى الداخل، رغم كل التحذيرات، تفتح طرق العبور إلى احتمالات عديدة، قد يكون آخرها حياةً جديدة.

الجامع المحاصر بالجحيم

اللحظات القليلة التي يمكن خلالها ركض مسافة تتجاوز 200 متر برأس خفيض مثقل بخوذة، بالإضافة إلى درع ثقيلة، هي لحظات العبور خلال الحديقة الخلفية والدخول إلى الجامع. الجامع هذه المرة تحت نار المعارضة التي تباكت على الضريح طوال أيام العملية العسكرية المتواصلة. لا يمكن ملاحظة الكثير بوجود ملاك الموت المخيّم الذي يؤرق المزاج الفضولي لبعض الواصلين إلى هذه النقطة، ونشوة الانتصار بالوصول إليها، بالنسبة إلى البعض الآخر. ولا تفكّر أن يدعك الهاربون من الجامع، والمتربصون بمن فيه الآن، تهنأ بوجودك داخله. عليك أن تلتجئ إلى الوقوف دقائق، تشعر بها سنوات، وراء عمود ما، حيث يدخل الرصاص من جميع النوافذ. جحيم يفتحه المسلحون على العابرين إلى ساحة الجامع من جهات عدة داخل حمص القديمة. لا تسمح لقدمك بأن تنزلق على غبار الرخام في باحة المسجد، فلن يرحمك القنّاصون. وإن حصل وفعلتَ، فستكون في موقف صعب. ستلمح رجلاً هُنا أو هُناك يقفز قفزات عالية، ما كان لينجح فيها لو شارك في مسابقة الوثب العالي. سيكتشف هُنا أنه مؤهل لأن يشارك بمثل هذه المسابقات، أو سيتلمّس شغف الحياة بداخله. يمكنك أن تلحظ سريعاً ضريح خالد بن الوليد، وقد نال حصّته من الإصابات، والسجّاد الأحمر المفروش، موحياً للوهلة الأولى وكأنه أنهار من الدماء. وأنت تعبر للخروج من باب الجامع المثقّب بالرصاص، قد يصدمك أحد الزملاء بسقوطه أرضاً برصاصة دخلت في الفخذ اليمنى وخرجت من اليسرى. بعد الانتهاء من صدمة نجاتك، ستكتشف أن الزميلة التي أصيبت هي مراسلة إحدى المحطات غير السورية. لكن إصابتها ستصيب الجميع بالخيبة، فتلك المغامرة لن تبقى ذكرى أو لعبة إذاً، بل ملوّنة بالمرارة، مرارة نسيتَ للحظة أن أهل «المتطوّع كرم» يواجهونها الآن، لمجرد أنك تعرف الزميلة ولا تعرف «كرم». البعض يَبِس بمكانه رافضاً عبور أمتار الموت تلك. البعض الآخر تجمعت الدموع في عينيه، وركض صارخاً. أقسى سيناريوات الموت ستواجهها في جامع «سيدي خالد»، كما يحلو لأبناء الخالدية تسميته.

عقدة الوصل بين المسلحين

يتربع جامع «سيف الله المسلول» ضمن أشد النقاط تحصيناً في الخالدية. جزء منه يطلّ على الحي المنكوب، والجزء الآخر يطلّ على جورة الشياح. تقدم الجيش السوري بدا أفقياً على خط حديقة العلو. هرب «أنصار خالد»، تاركين الضريح متهالكاً بعد بكائهم ومرثياتهم عبر المحطات والصفحات الإخبارية المعارضة. ساعات فقط هي المسافة الفاصلة عن السيطرة الكاملة على الجامع، وتحصينه. لم يسيطر الجيش السوري على منطقة الجامع بالكامل، لكن بدأت الكثير من الأصوات الحمصية تنادي بالتحضير لترميم الجامع، وتنظيف ما حوله، بهدف استعادة شيء من قيمته التراثية ومظهره العمراني الحضاري. كرم المسلحين في إطلاق الذخيرة الحية من كل الجهات على الجامع، يصوّر حجم الإمدادات الهائلة لديهم. صوت قائد عسكري ميداني يجهر بصوت عالٍ مختصراً المعركة على طول البلاد وعرضها بالقول: «عندما نستطيع التقدم سنفعل. ما يمنعنا لم يكن قرار قيادة، بل صعوبة الحرب الدائرة بين المباني». لا كلام ميدانياً بعد كلامه. إنما يعني ما ذكره، عجز الجيش عن التقدم في بعض المناطق، وبالتالي لم يكن للجيش فعلياً أن يسيطر على الخالدية خلال ساعتين، لو أراد، كما يحلو للبعض القول.



صدى الحرب لدى «الموالاة»

«إنها الحرب، تدمي القلب» هذا ما أعلنه الشاعر أمل دنقل يوماً، ويعايشه السوريون عموماً، والحمصيون على نحو خاص، كل يوم. وليست كل الحروب، حتماً، كحرب مدينة حمص، «قلب البلاد» الذي ما زال مثخناً بسموم الحرب وأوجاعها. لأصوات القنص والقصف والانفجارات في المدينة المشتعلة، قسوة لا يمكن الإحساس بها في أي مكان آخر. ليس بعيداً عن حيّ الخالدية حيث تشتد المعارك دون توقف، وتحديداً في حيّ الزهراء «الموالي» يمكن سماع أناشيد الحرب المرابطة على تخوم الحيّ. تسأل: «أين هذا القصف العنيف؟»، سيأتيك الجواب سريعاً: «الخالدية». وستسمع، لا شك، الكثير من التذمر والتساؤلات: «ما السبب في كل هذا القصف، فيما الدولة غير عاجزة عن إنهاء مسلحي الخالدية خلال ساعتين؟». وستسمع كثيراً عن وجود مسلحين مسيحيين في حيّ الحميدية القديم، الذين «لا يتعدّون أكثر من 150 مسلحاً»، بحسب أحد أبناء الحيّ النازحين إلى حيّ الأرمن. الحيّ الذي يهجس بأخبار الحرب القريبة، بعيدٌ نسبياً عن مجريات الأحداث الحقيقية، حيث يحاول سكانه الإلمام بأخبار المعارك داخل أحياء المدينة، إلا أن التناقضات تخيّم على كلام الجميع. صاروخ مريع قد يقطع أحاديثهم، يهبط عليهم من السماء، آتياً بلا رحمة من أراضي الأحياء المجاورة، أو ربما حمص القديمة. قدرٌ خيّم على أهالي الحي، والحمصيون عموماً، إنما يعلمون جيداً أنها «الحرب... تدمي القلب».