يلتف الفلسطينيون على بؤسهم فيبدون أروع وأجمل منه. يعلنون المواجهة من ناحية، ومن جهة أخرى يبتدعون أشكالاً جديدة للفرح، وينسجون أطراً مبتكرة في أرجاء المخيم . بما تيسر من مساحات تنتشر بسطات الألبسة ولعب الأطفال هنا في البارد، مما قلّ ثمنه وزهت ألوانه. «القطارات»، المخصصة للاولاد، تجوب طرقات المخيم : من المخيم القديم إلى حاجز العبدة ومن شاطئ البحر إلى مفرق بحنين. طوال ساعات الليل، يتكرر انطلاق «الرحلات» محملة بالأولاد، واحدة تلو الأخرى كل نصف ساعة، الكلفة قليلة (ألف ليرة عن الولد) والمتعة جمّة، سياحة داخلية تمكن الولد من رؤية مخيم اختلفت معالمه عما كانت عليه قبل أن يولد.
قطارات في المخيم، صدقوا ذلك! رغم أن القوانين اللبنانية منعت تعبيد إحدى طرقات المخيم بحجة أن سكة الحديد تمر بها، علما بأن السكة المذكورة صارت أثراً بعد عين على امتداد الأراضي اللبنانية، لا يتذكرها المسؤولون إلا في تلك المسافة الضيقة التي تصل بين حارة فلسطينية وأخرى، تماماً كما لم يتذكروا الآثار في مختلف البقاع اللبنانية، إلا في المخيم، حيث مثّل اكتشاف «أرتوزيا» عاملاً إضافياً لتأخير عودة مهجري البارد إلى منازلهم. هنا العجلة لا مبرر لها، بإمكان الفلسطيني أن يسكن سنة إضافية أو اثنتين في كاراج، أو بإمكان عائلة أن تنضم إلى عائلتين يسكنان في منزل واحد، فالمنزل الذي يأوي عائلتين يمكن أن يأوي ثلاثة أو أكثر. وبإمكان الجهات المختصة أن تقتطع مبالغ مخصصة لإعادة الإعمار لصرفها في مجال البحث والتنقيب عن الآثار، تماماً كما أهدرت مبالغ طائلة تحت مسميات شتى، تنعم بها محظيون من أصحاب الرواتب العالية، (فاق بعضها عشرين ألف دولار)، حتى إذا ما مرّت ست سنوات على بدء إعمار المخيم، لم يعمَّر أكثر من ربع المخيم، ولا تزال ثلاثة آلاف عائلة ونيف من دون مأوى.
الأموال نفدت من صناديق الأونروا، فأعلنت أنها ستلغي … برنامج الطوارئ! ومن ضمنه؟ تعويض المهجرين ببدلات سكن (150 دولاراً) لا تساوي بمعظم الأحيان الإيجار الحقيقي.
وقوام برنامج الطوارئ بعد تدمير المخيم: بدل إيجار المسكن،كامل كلفة الطبابة لأبناء البارد، ومعونة غذائية شهرية بانتظار عودة المخيم إلى وضعه الطبيعي.
لم يعد المخيم إلى وضعه الطبيعي، وشبه مؤكد أنه لن يعود إلى ذلك أبداً، ومع ذلك، او ربما لذلك، تقرر وقف البرنامج.
أسبوعان مرا على صدور قرار الأونروا، والاحتجاجات في تصاعد. سكان البارد نزلوا إلى الشوارع، مراكز الأونروا في البارد أقفلت، سيارات الموظفين منعت من التحرك، تظاهر المئات أمام المركز الرئيس في طرابلس. وفي السياق ثمة إطار آخذ في التبلور منذ انطلاقته العام الماضي عندما تحرك أبناء المخيم، ونجحوا في إلغاء نظام التصاريح، وتخفيف الحالة الأمنية المفروضة عليهم منذ سنوات.
قرب شاطئ البحر، في الجهة الغربية من المخيم، يقضي منظمو ما أطلق عليه الحراك الشبابي للتغيير معظم سهراتهم الرمضانية. يتداعون للتلاقي بشكل عفوي، يبدو الشباب متفلتين من أي ضوابط تنظيمية رغم أن معظمهم ينتمون إلى هذا التنظيم أو ذاك، فانتقاداتهم لا تعرف حدودا، بعضها ذو طابع سياسي، وبعضها الآخر يغلب عليه التهكم والسخرية.
الخطة التصعيدية التالية لإقفال مكاتب الأنوروا، هي فتح المدارس لإسكان الناس في حال إصرار الأونروا على الامتناع عن دفع بدلات الإيجار. أحد الناشطين، سبع الليل، يخطط لأن يشغل مع عائلته غرفة المعلمات في إحدى المدارس، لتلك الغرفة «ذكريات جميلة في عقلي» يقول ساخرا. أما ابراهيم شعلان ف «حاطط عيني على مكتب مدير الأونروا»، وهو شقة محترمة فيها غرف عدة وثلاثة حمامات. يضيف شعلان «ابني لازم يترفه»، خصوصاً أن ريتشارد كوك مدير الأونروا في العام 2007 أعلن أنه ستتم المحافظة على كرامة اللاجئين من لحظة خروجهم حتى عودتهم إلى المخيم «طيب وما دام جايي يكرّمنا، ليش أنا بقعد ببراكس الحديد وحضرتو بالشقة الفخمة؟»يسأل الشاب.
ساعة من المزاح، ثم ينتظم النقاش. يقول ميلاد سلامي «الأونروا نفسها طويل. فهي الجهة الدولية التي تحدد سياساتها أغلب الدول الضالعة في تقسيم فلسطين. إذن هي دول لها مخططاتها ومشاريعها لتشتيت الشعب الفلسطيني ومحو هويته، وما تقليص الخدمات إلا نتيجة اطمئنانهم لضعف المقاومة الفلسطينية». بسام القاضي أعجبته الفكرة، فراح يقدم الحجج لإثباتها. يتذكر بسام أن مدارس الأونروا التي تكدس اليوم أكثر من خمسين طالباً في غرفة الصف الواحدة، كانت «تطعمنا السريلاك يوم كنت تلميذاً»، ويومها يضيف القاضي كانت «أمي تعمل في مطعم المدرسة وتخبرنا عن جودة الطعام»، لكن خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت بعد اجتياح العام 1982، كان بمثابة محطة أساسية لبدء تراجع الخدمات، وبسبب «حنكة» جماعة الأونروا، يتأخرون قليلاً في تقليص خدماتهم حتى لا ينكشفوا. فبحلول العام 1985 جرى إلغاء المطاعم من مدارس الوكالة، واستمر تراجع التقديمات، إلى أن طال طريقة التعاطي مع المدرسين، فبينما كانوا يوقعون عقود تفرغ مع بداية عملهم، يتم الآن التعاقد معهم لمدة قبل توظيفهم بشكل نهائي. ولاحقاً راحت الأونروا تعتمد أسلوباً يجعل الفصائل والمرجعيات الفلسطينية مرهونة لإرادتها. فكل وظيفة، أو خدمة، باتت تحتاج لواسطة «اطعم العين يستحي التنظيم»، حتى يسهل ضبط ردود فعل الفصائل واللجان الشعبية. فانتشر الفساد. يقول موظف سابق في الأونروا، «تصور أن سقف التغطية الصحية هو 10 آلاف دولار، ومع ذلك ثمة حالات كثيرة تفعل فيها الواسطة فعلها». وعلى سبيل المثال يذكر الموظف السابق أنه منذ سنة ونصف عولجت مريضة على حساب الأونروا لستة أشهر، والآلية بسيطة جداً، كلما كانت تبلغ كلفة الاستشفاء سقف العشرة آلاف دولار، تخرج المريضة من المستشفى ليعاد إدخالها في اليوم التالي، وهكذا دواليك، يمكن أن يتلقى «المدعوم» علاجاً بمئة ألف دولار، على أن يتم إدخاله وإخراجه من المستشفى صورياً، ريثما تنتهي مدة العلاج. وبالمقابل توفيت جميلة اسماعيل وأميرة داوود أثناء العلاج، فتمّ احتجازهما في المستشفى بانتظار تمكن ذويهما من تسديد الحساب.



في بيانها حول إنهاء برنامج الطوارئ، استثنت الأونروا حالات العسر الشديد. فادي عبد الرحيم الذي بترت رجله بسبب تأخر الأونروا عن إعطائه الدواء اللازم، يتحدث عن تمييز كبير في تطبيق المعايير، وعن استشراء الفساد والمحسوبيات لدى تحديد الأسر التي تنطبق عليها حالات العسر الشديد، ويضيف عبد الرحيم أن أغلب معتمدي الفصائل في المخيم يحصلون على مساعدات تحت خانة تصنيف حالاتهم بالعسر الشديد. ولم تدعِ الأونروا أنها ستقوم بوقف برنامج الطوارئ «بعد مشاورات مع المسؤولين الفلسطينيين»، كما ورد في بيانها، إلا لأنها ضمنت صمت وتواطؤ العديد منهم.