القاهرة | على الرغم من أن ثورة 25 كانون الثاني قد صنعت ميداناً شبه مثالي، تجلّت فيه الوحدة والتماسك وعدم الإقصاء أو التخوين، حطم استفتاء 19 آذار، الذي تلاه، هذه الفكرة المثالية، مؤسساً لأول صراع سياسي في المجتمع، مع أول خطوات إعادة بناء الدولة والنظام في مصر. لكنه صراع اتفق الجميع على أن يكون الصندوق هو الحكم فيه؛ إلا أنه في ركاب هذه القيمة (الصندوق الانتخابي)، كان ثمّة استدعاء لخطاب كان الحديث عنه مؤجلاً إبان فترة حسني مبارك هو خطاب الهوية، الذي استدعاه الفكر السلفي، سواء الإسلامي ممثلاً في الدعوة السلفية في الإسكندرية، أو في صورة المذهب الأرثوذكسي من خلال الكنيسة القبطية، حينما رفع الأولون شعار أن التصويت بنعم من أجل الشريعة، بينما رفع الآخرون شعار أن التصويت بلا كي لا تكون مصر دولة إسلامية.
لم يكن يعرف المجتمع المصري كيف يجيب عن «سؤال الهوية»؛ فالدولة كانت في حالة تأميم للدين بطرق ناعمة، وعملت على توظيف الهوية، سواء عبر الحركات الإسلامية أو الكنيسة، وفقاً لمصالحها، وهو مسلك قامت به نخبة الإسلاميين والعلمانيين، بينما كان المصريون يتّحدون تحت شعار «الدين لله والظلم والفقر والاستبداد للجميع».
ومع اقتراب موعد تظاهرات «30 يونيو»، التي دعت إليها حركة «تمرد» من أجل انتخابات رئاسية مبكرة أو إجراء استفتاء على بقاء محمد مرسي، وما تلا ذلك من أحداث وصدام، كان المجتمع على موعد مع وجود شواهد عديدة على أن خلفية الصراع الأساسية وجوهره هما «إسلامي ـ علماني»، خصوصاً بعدما وظفت النخب السياسية من الجانبين شعارات الهوية، وكانت الجماهير هي وقود ذلك، في ظل تراجع فكرة احترام نتائج أي اقتراع، وزيادة وتيرة العنف.

الشواهد

في فيديو مسرب لندوة الهيئة الإنجيلية القبطية، قال حلمي النمنم، أحد الكتاب العلمانيين في مصر، أن «الآوان قد آن كي يخرج ما يسمى تيار الإسلام السياسي من اللعبة، وهذه هي اللحظة المناسبة، لأن حزب النور أخطر من جماعة الإخوان المسلمون، لنضع دستوراً مدنياً حقيقياً، فنحن نكذب ونقول مصر بلد متدين بالفطرة، بل مصر بلد علماني بالفطرة»، مضيفاً «مفيش ديموقراطية ومفيش مجتمع انتقل إلى الأمام دون دم. قضيتنا ألا يتحول الأمر إلى حرب أهلية، وألا يكون دم غزير».
أما الكاتب حامد عبد الصمد فقال في ندوة لحركة «علمانيون» إن «الفاشية الدينية الإسلامية قديمة جداً، لا تبدأ فقط بصعود التيار السلفي أو صعود الإخوان المسلمين، فتاريخ الفاشية الإسلامية يبدأ بفتح مكة».
في موازاة ذلك، كانت كثير من هتافات منصة «رابعة العدوية»، حيث أنصار محمد مرسي و«عودة الشرعية»، تقول «إسلامية إسلامية رغم أنف العلمانية»، و«بالروح بالدم نفديك يا إسلام»، و«مصر إسلامية لا علمانية ولا ليبرالية»، وعبارات مثل «قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار»، ساهمت فيما بعد في ترسيخ أفكار هوياتية في أذهان الكثيريين.
على مستوى السلطة السياسية، كانت جميع الأحاديث تطالب بحل أي حزب ذي مرجعية دينية، وخلوّ الحكومة من أي ممثل للتيار الإسلامي، مع سيطرة تيارات العلمانيين، إما التابعين لجبهة الإنقاذ الوطني أو التكونوقراط؛ مواقف دفعت الى صعود صراع الهوية على السطح بشكل أكبر، خاصة أن الإسلاميين يرون أن العلمانيين جاءوا إلى الحكم على ظهر الدبابة وبمعاونة القائد العسكري عبدالفتاح السيسي.
يقول الخبير في مركز الأهرام للدراسات، الدكتور يسري العزباوي، لـ«الأخبار»، إن أعمال العنف في مصر ستجعل الناس تحجم عن المشاركة في السياسية، خاصة أن ازدياد العنف جعل المصريين يعتادونه وأصبح سلوكاً وجزءاً من تصرفاتهم العادية، ويظهر هذا في العنف اللفظي على الأقل، وسيؤدي ذلك في النهاية إلى تقليص العملية السياسية وكفر الناس بالأحزاب والمشاركة في العمليات الانتخابية المختلفة.
المخيف أنه كلما اعترض فصيل على شيء خرج إلى التظاهر في الشارع، وما ينتج من تلك التظاهرات من تأثير على حياة المواطن العادي من أزمات وارتفاع في الأسعار، سيدفعه الى الكفر بالسياسة؛ والأمر لن ينحصر فقط بالمواطنين العاديين، بحسب العزباوي، بل سيشمل النخب المثقفة.
ولحل هذه الأزمة لا بد أن يكون هناك نوع من التوافق السياسي والحوار، مع فكرة وجود عملية سياسية واضحة المعالم تجبر الجميع على المشاركة فيها. ويضيف العزباوي أن من «يتحمل مسؤولية العنف الأخير هم وزير الدفاع ووزير الداخلية عن قتل المتظاهرين، وقيادات جماعة «الإخوان المسلمين» التي عملت على تفريغ التظاهرات المؤيدة لوزير الدفاع من مضمونها بالتحريض على قتل أفراد من أنصارها كي تستغيث بالعالم».
أما أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، الدكتور محمد صفار، فيلفت في حديثه لـ«الأخبار» الى أن ما يحدث الآن هو أن جوهر الصراع السياسي يتم كشفه على حقيقته، بوصفه صراع وجود بين كل الأفرقاء؛ فالأيدولوجية هي مجرد غطاء لوحشية السياسة، التي يموت ويختفي الإطار الحاكم لها، والذي يضمن وصوله إلى مرحلة دموية في خضم الصراع على السلطة»، موضحاً أن «الفارق بين السياسة في الغرب وعندنا هو أن السياسة هناك وضعت في إطار حاكم وبقواعد ضابطة، لا يخالفها أحد، بحيث ينزع عنها فتيلها، لتكون الأصوات بدلاً من الرصاص»، من خلال آليات متحضرة، متوقعاً أن تطول الفترة الانتقالية في مصر بسبب عوامل عدة، تتعلق بالثقافة السياسية والهوية وغيرها.
ويرى الباحث في العلوم السياسية، هشام جعفر، في حديث إلى «الأخبار» «أننا في السابق كنا نعيش في نظام منزوع السياسة، وبعد الثورة حدث فائض في العملية السياسية، ومع ضعف بناء المؤسسات السياسية نتج ما يسمى سياسة الشارع، وهي السياسة التي تمارس من الشارع وليس من المؤسسات، وهي أزمة موجودة ليس في مصر فقط بل على المستوى العالمي، وتعرف بأزمة الديموقراطية، أو أزمة احتواء الفاعلية السياسية».
ولا يرجع جعفر العنف الموجود حالياً الى خطاب الهوية أو الخطاب السياسي فقط، بقدر ما يرجعه إلى أن المجتمع لا يزال غير قادر على التوافق حول منظومات قيمية وأخلاقية، خصوصاً في ظل مرجعية حاكمة يتفقون عليها، مشيراً إلى أن هذا العنف أدى إلى انقسامات متعددة في المجتمع، طبقية وثقافية وسياسية، وانقسام حول من هو العدو الحقيقي.
ويتفق جعفر مع العزباوي على أن «الأخطر من العنف الدائر حالياً هو فقدان ثقة الناس بالطبقات السياسية، سواء في الحكم أو في المعارضة، وبالتالي هذا يجعلها تفقد الثقة بالعملية السياسية ككل، وبالتالي سيؤثر ذلك على العمليات السياسية القادمة. إذن فالطرفان هنا لا بد أن يحاسبا من قتل ومن قام بالتحريض».
الباحث السياسي عادل نبهان يشير الى أنه «بصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع طريقة إدارة جماعة الإخوان المسلمين لمصر أو فشلهم، إلا أننا كنا بدأنا في السير في إطار ديموقراطي، ولو من الناحية الشكلية فقط، من ناحية الانتخابات. وبالتالي، فإن هدم المسار الانتخابي أو المسار التصويتي من خلال انقلاب عسكري بالتأكيد ستكون له توابعه على العمليات السياسية المقبلة».
ويضيف نبهان أن «ما قام به الفريق السيسي من الدعوة الى التظاهر لتأييد موقفه وإضفاء شرعية عليه، وبلورة ذلك على وضع انتخابي، سيعود بنا إلى الصيغة القديمة نفسها: أن يصوّت الناس من أجل الشخص ومن أجل المؤسسة العسكرية التي من المُرجّح بقوة أنها سترشح أحد أفرادها في الانتخابات القادمة».
وبحسب الباحث السياسي، فإن العنف الحاصل حالياً، والاتجاه التصعيدي من الطرفين، ليسا في مصلحة جماعة الإخوان المسلمين، لأن السلطة والقوة في يد المؤسسة العسكرية، وهناك تحالف ضد جماعة الإخوان المسلمين، من التيارات المدنية الداعمة للمؤسسة العسكرية، وكيانات أخرى مثل الأزهر والكنيسة، ما ينذر بتصفية للجماعة آجلاً أو عاجلاً، «وهنا يجب أن نسأل سؤالاً: هل سيظل الموقف على ما هو عليه، أم سنتحول إلى مسار أعنف يشمل عمليات اغتيال وتفجيرات؟ وهل ستستطيع المؤسسة العسكرية السيطرة على الأوضاع؟»
كل ذلك سيؤثر بالتأكيد على مشاركة المواطن العادي في العملية السياسية، خاصة أن فصيل التيار الإسلامي كَفر بالفعل من المشاركة في السياسة، لأنه فقد الضمانة للمشاركة في أي انتخابات أو أحداث سياسية قادمة، بما أن سبب وجوده في رابعة العدوية هو محاولة إعادة مرسي أو إعادة النظام الديموقراطي. وفي هذا الإطار، بحسب نبهان، تُطرح معضلة وسؤال مهم: هل ستلاقي فكرة الانتخابات قبولاً، خاصة أن الوضع لو استمر على ذلك فسيرفض التيار الإسلامي المشاركة في أي إجراء سياسي؟



عود على بدء

يقول الباحث السياسي عادل نبهان، الى «الأخبار»، إنه على الرغم من رفض غالبية أحزاب التيار الإسلامي المشاركة في أي عملية سياسية في ظل الوضع الراهن، «هناك داخل التيار الإسلامي أحزاب ستقبل بالمشاركة السياسية مثل حزب «النور»، والجماعة الإسلامية التي أعلنت قبول مبادرة محمد سليم العوا، وقالت إنها مبادرة جيدة لبداية الحوار، وستقبل بخوض الانتخابات ما لم يُصب أعضاءها أيّ ضرر».
وبالنسبة إلى المواطن البسيط، يعرب نبهان عن اعتقاده بأن «فكرة الانتخابات ستهمه كثيراً، لأن البدائل بعد ذلك هي بدائل ليبرالة ضعيفة، أو مؤسسة عسكرية تحظى بشعبية كبيرة الآن، وبالتالي سيكون المواطن أقرب إلى المؤسسة العسكرية، وهذا سيعيدنا إلى الوضع القديم الذي يتمثل في ديموقراطية شكلية بأحزاب سياسية وجودها في الشارع ضعيف أو غير مؤثر».