دمشق | بينما تواصل قوات الجيش السوري عملياتها ضد مسلحي المعارضة وتخوض حرباً تشمل كل أطيافهم وكتائبهم مهما اختلفت تسمياتها، تدور حرب من نوع آخر بين هؤلاء المسلحين، المنقسمين اليوم، على نحو واضح جداً. كل فصيل أو ميليشيا تقاتل وفقاً لولائها الديني والسياسي والنفعي، بعيداً عن شعارات «الثورة» التي رفعت في بداية الأحداث. وبنظرة عامة إلى سير التطورات على الأرض، خلال الأسابيع الماضية، يجد المتابع أن هناك انقسامات كبيرة، وصلت إلى حد «الانشقاقات»، بين «الجيش الحر» والكتائب «الجهادية» التي تتزعمها «جبهة النصرة» و«دولة العراق والشام الإسلامية»، وذلك بسبب الاختلافات الإيديولوجية والممارسات الدموية التي ترتكبها وتفرضها تلك الكتائب في مناطق سيطرتها، التي طالت في أحيان كثيرة أهالي وأقارب مقاتلي «الحر».
وهنا يؤكد أحمد عبد القادر (اسم مستعار)، أحد مقاتلي الجيش الحر، أنّ ما ترتكبه تلك الجماعات أصبح يفوق القدرة على الاحتمال، مستعرضاً العديد من حالات الإعدام والقتل التي قامت بها بدم بارد، لأسباب «دينية» أو لتطبيق «الشريعة»، وفق منظورها التكفيري، معتبراً أنّ كل ما تقوم به تلك الجماعات يصبّ في مصلحة النظام، ويضعف المعارضة.
ولا يخفي المقاتل الذي انضم منذ بداية الأحداث إلى المسلحين، في حديثه مع «الأخبار» عبر البريد الإلكتروني، تخوّفه من سيطرة هؤلاء «الجهاديين» على مساحات من سوريا، سيصعب بعدها إخراجهم منها، لا سيّما من خلال الدعم الواضح الذي يقدم لها أخيراً، دون غيرها، من مال وسلاح، ليحمّل في ختام حديثه مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع في البلاد وتمدد نفوذ «الجهاديين» إلى النظام الذي اتبع الحل الأمني ضد من خرجوا يطالبون بالحرية والعدالة. يتشارك في هذه الجزئية فقط مع فيصل، وهو مقاتل آخر يجد أنّ هؤلاء «الجهاديين» هم «إخوة جاءوا لنصرة الحق وإخوانهم في سوريا» وأنّ ما يُتناقل عن خلافات معهم، أو خطرهم، ليس إلا عملية تضخيم إعلامي، لضرب معنويات المعارضة.
غير أن ما يحدث بالفعل يؤكد أنّ هنالك تنامياً ملحوظاً لنشاط ونفوذ تلك الجماعات «الجهادية» التي تريد تأسيس «دولة الخلافة» في سوريا، وفق تعبير مصدر معارض، رفض الكشف عن اسمه، في تصريح إلى «الأخبار». ويعترف المصدر بأنّ المعارضة اليوم في مأزق حرج، قد يزداد في حال استطاعت الجماعات الإسلامية في شمال البلاد فرض سيطرتها الكاملة هناك، معتبراً أن موافقة «الائتلاف» على الذهاب إلى «جنيف 2» ومفاوضة النظام، جاءت بعد إحساسه بالخطر الكبير الذي باتت تمثله تلك الجماعات.
ورغم أن تلك الجماعات، وفي مقدمتها «دولة العراق والشام الإسلامية» التي تعد أقوى الجماعات تأثيراً في حلب وريفها وإدلب واللاذقية، تحاول تغيير صورتها القاتمة عبر استغلال أجواء رمضان بتنظيم حفلات رمضانية ومسابقات حفظ وتلاوة القرآن وتوزيع الطعام على الأهالي، ستظل، بحسب ما تنقل وسائل الاعلام الغربية والعربية، في عيون السوريين وعقولهم، جماعة غريبة عن بلادهم، خاصة أنّ معظم مقاتليها أجانب جاءوا من دول إسلامية وأوروبية.
ولا يتردّد المصدر المعارض كثيراً في التعبير عن مخاوفه ممّا تحمله الأيام المقبلة، لا سيّما بعد ما قامت به تلك الجماعات من حصار خانق لمدينة حلب، وتضييقها على السكان، وانقلابها على الجيش الحر واستمرارها في استهدافه واغتيال قيادييه، وإطلاقها النار فوراً على أي مظاهر احتجاجية ضدها. وهو ما سيزيد من عزلتها ويضاعف تشددها الذي يظهر اليوم في شمالي البلاد وشرقيها، من خلال قصف المناطق الكردية، وفرض لباس معين على السكان، وتطبيق «المحاكمات الشرعية»، لتغيب الإجابة عن السؤال الأهم: ماذا عن الأقليات؟
ومع تسارع ما تنقله يومياً العديد من الصحف والوكالات الغربية، من أنباء عن انشقاقات واشتباكات بين الكتائب «الجهادية» و«الحر»، فقد بات أفراد الأخير، وفق مصدر حكومي، رفض الكشف عن اسمه، أمام خيارين: إما التخلي عن فكرة «الثورة» والانضمام إلى الكتائب الإسلامية، «لأن القادمين من خارج الحدود لن يأتوا بالحرية والديمقراطية المنتظرة بل بالسيوف والتكفير وقطع الرؤوس»، أو رمي السلاح والعودة إلى «أهلهم وجيشهم» والتصدي للفكر التكفيري الذي لن يقيم للبلاد، بعد أن ينتشر ويقسمها، قائمة.
وفي الوقت الذي أعلن فيه مسلحون، يطلقون على أنفسهم اسم «ثوار دمشق»، انشقاقهم عن الجيش الحر وبدء سلسلة عمليات «الحسم الدمشقي» داخل مدينة دمشق التي شهدت، منذ إعلانهم قبل أيام، عدداً من التفجيرات والقذائف كان أدماها تفجير جرمانا، يعيد مقاتلون في الجيش الحر حساباتهم، بعد فقدانهم الأمل بتحقيق أهداف «الثورة»، لتبرز عدة «مصالحات» وتسوية أوضاع، وصلت اليوم إلى الزبداني، حيث تتداول أنباء عن الوصول إلى اتفاق بين مسلحي الزبداني والسلطات الحكومية لتسليم السلاح خلال أيام يعقبه زيارة المحافظ إلى المدينة.
ووفق مصادر غير رسمية، فإن عشرات المجموعات المنضوية في الجيش الحر بدأت التخطيط للانقلاب على الكتائب الجهادية في أكثر من منطقة، للتصدي للخطر المتنامي للجماعات الإسلامية المتطرفة التي كانت «السبب» في شيطنة صورة المعارضة وتأخير الدعم العسكري من دول الغرب. هذه الدول التي تواصل انسحابها الإعلامي من وعود التسليح، لتكون هذه المهمة اليوم في عهدة السعودية وتركيا اللتين تواصلان تقديم المزيد من الأسلحة المتطورة والصواريخ للمسلحين «الجهاديين» استعداداً لما يسمى معركة حلب الرامية إلى تقويتهم وتثبيتهم على الأرض لإسقاط مؤتمر «جنيف 2».
لكن ما يدور عن هذه المعارك والانقسامات الحاصلة بين الكتائب «الجهادية» والجيش الحر لا يخلو من البعد الإعلامي الذي تحاول فيه الولايات المتحدة ودول الغرب إيجاد المزيد من المبررات للتدخل في سوريا، كما يرى المصدر الحكومي. حيث إن واشنطن تحاول تصوير أن هناك اليوم خطراً للتمدد الإسلامي على حساب «المعارضة المدنية المعتدلة»، الأمر الذي يتطلب دعمها وتسليحها من أجل التصدي لهذا التمدد والوقوف في وجه خطر الجماعات الجهادية.
ويؤكد المصدر، بعد أن يحذر الحكومة التركية من خطورة الاستمرار في إمرار الأسلحة عبر أراضيها، أن أي أسلحة ترسل اليوم إلى المعارضة تصل تلقائياً إلى أيدي الجماعات الإسلامية المتطرفة، لأنها «الطرف الأقوى والأوسع انتشاراً في جبهة المقاتلين لإسقاط الدولة السورية»، متسائلاً عن سبب التأخير في الحل السياسي المحتوم، وماذا لو سبقه سيناريو تحول سوريا إلى دولة مقسمة وفاشلة على غرار أفغانستان؟
وبين أن يكون لكل سوري بلد وإمارة داخل وطنه وإعادة سوريا الوطن إلى كل أبنائها واحدة موحدة، تدور الحرب في البلاد، في عدة اتجاهات، يشاهد فيها السوريون الذين خرجوا في بداية الأحداث، للمناداة بالحرية والديمقراطية، أن مطالبهم باتت رهينة في أيدي التكفيريين وداعميهم وكل من يعطّل الحل السياسي الذي يتمناه وينتظره اليوم كل أبناء الوطن.