اسطنبول | دأ الجيش التركي باجتياح شمال العراق منذ عام 1988 في إطار الاتفاق الذي وقّع عليه آنذاك مع بغداد، التي كانت منشغلة بحربها مع إيران. وتكرّر هذا الاجتياح حتى الاحتلال الأميركي للعراق أكثر من 30 مرة، من دون أن يحالف الحظ أنقرة في القضاء على مسلحي حزب العمال الكردستاني، الذين كلفوا تركيا، خلال 30 سنة من الحرب، أكثر من 200 مليار دولار، وحوالى 50 ألف قتيل من الجانبين.
وكان الموقف الأكثر غرابة، بالنسبة لأنقرة، هو محاربتها لأكرادها من جهة ودعمها لأكراد العراق من جهة أخرى. كذلك يثير التعجّب أيضاً تهديداتها بالحرب ضد سوريا بحجة أنها تؤوي عبد الله أوجلان على أراضيها، في وقت كانت تؤوي فيه الزعيمين الكرديين مسعود البرزاني وجلال طالباني على أراضيها، وتقدّم لهما كل أنواع الدعم المادي والمعنوي والعسكري.
علماً أنهما كانا ارهابيين في نظر بغداد، حالهما حال أوجالان في نظرها. وكان الرئيس التركي الراحل طورغوت أوزال قد منح البرزاني والطالباني جوازات سفر دبلوماسية تركية بعد حرب الخليج الأولى، بعدما اتفق معهما ومع واشنطن على إقامة كيان كردي مستقل شمال العراق تحت الحماية والرعاية التركية. ويفسر ذلك دعوة أوزال لقوات التحالف الدولية في تموز 1991 إلى المجيء لتركيا لحماية أكراد العراق، شمال خط العرض 36، بعد أن رفض رئيس الأركان التركي آنذاك تعليماته باجتياح شمال العراق وضمه إلى تركيا. وبقيت هذه القوات في تركيا حتى الاحتلال الأميركي للعراق.
ودون أن تهمل أنقرة طيلة هذه الفترة توجيه انذارات وتحذيرات متتالية لأكراد العراق، معلنةً عن خطوط حمراء للدولة التركية، وتتضمن منع إقامة أيّ كيان كردي مستقل شمال العراق قد يهدد الأمن الوطني والقومي للدولة والأمة التركية. وانتهت هذه التهديدات والتحذيرات بتحول الخطوط الحمراء إلى خطوط وردية بعد احتلال العراق، حيث أصبح الطالباني رئيساً للعراق ومسعود البرزاني رئيساً لاقليم كردستان.
وسبق لهما أن جاءا تركيا قبل ذلك التاريخ عشرات المرات، واستقبلا من قبل جميع رؤساء الوزراء الأتراك. وكان الطرف المسؤول عنهما في البدايات هو جهاز المخابرات التركية فقط، وهو حال زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، صالح مسلم، الذي زار اسطنبول الأسبوع الماضي بناءً على دعوة من المخابرات التركية، على حدّ قول المسؤولين الأتراك.
وكان الأغرب في القصة، أن مسلم زار تركيا بعد أسبوع من الاعلان عن خطوط حمراء جديدة، عبر تهديدات وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو، الذي قال إنّ أنقرة لن تقف مكتوفة الأيدي حيال أيّ تصرف كردي أحادي الجانب في سوريا.
ويقصد بذلك اعلان الحكم الذاتي هناك.. في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أنّ خطوط داوود أوغلو الحمراء سوف تتبخّر على نحو أسرع مما يتوقعه الجميع في سوريا.
وجاءت دعوة الحكومة التركية لرئيس وزراء اقليم كردستان العراق نيشيروان البرزاني إلى تركيا قبل 3 أيام للاتفاق على خطة جديدة للتعاون التركي ــ الكردي عراقياً وسورياً لاثبات هذا التبخر السريع. فقد تحول أكراد العراق إلى حليف جديد للحسابات التركية، التي توترت علاقتها مع حكومة نوري المالكي والرئيس بشار الأسد وطهران ــ الأطراف الثلاثة ذوي العلاقة المباشرة بالملف الكردي اقليمياً، في حين تشهد تركيا منذ عامين مساعي مكثفة تبذلها حكومة رجب طيب أردوغان لمعالجة المشكلة الكردية داخلياً عبر الجلوس على طاولة المفاوضات مع أوجلان، المحكوم عليه بالسجن المؤبد.
ويبدو أنّها ترى فيه الآن أملها الوحيد للخروج من مأزقها الإقليمي عبر التحالف مع الأكراد، طالما أنّ واشنطن والغرب قد وضعوا من أجلهم العديد من الحسابات مع اقتراب الذكرى المئوية لاتفاقية سيفر (عام 1920)، التي تضمنت آنذاك إقامة دولة كردية في المنطقة. وأجّل الغرب هذا المشروع إلى تاريخنا هذا، بعد أن رُجّح عليه إقامة الدولة اليهودية على الأرض الفلسطينية، بوعد بلفور المشؤوم، في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أن الصفقة التي وقعتها أنقرة مع أوجلان كانت وما زالت تهدف لكسب أكراد سوريا إلى جانبها في حربها ضد دمشق.
ويفسّر كل ذلك دعم أنقرة، مع حليفتها التقليدية الدوحة، لانتخاب الكردي عبد الباسط سيدا، رئيساً للمجلس الوطني السوري المعارض ومن بعده للكردي غسان هيتو رئيساً لما يسمى بالحكومة السورية المؤقتة، في محاولة منها لاقناع أكراد سوريا وتركيا بالتمرد ضد دمشق.
وباءت كل مشاريع ومحاولات أردوغان ووزير خارجيته بالفشل الذريع، عندما انفجر الصراع أخيراً بين مقاتلي الاتحاد الديمقراطي ومسلحي «النصرة»، الذين حاولوا طيلة الأسابيع الثلاثة الماضية السيطرة على بعض المناطق الكردية شمال شرق سوريا، بدعم مباشر وغير مباشر من الثنائي أردوغان ــ داوود أوغلو. وفقدا السيطرة مؤخراً على المعارضة السورية بعد انتخاب أحمد الجربا، المدعوم من السعودية، التي لن تتردّد في استخدام الورقة الكردية، أيضاً، اقليمياً كما تستخدم المعارضة السورية بكافة أطيافها عبر التنسيق والتعاون مع واشنطن.