مع انتقال العراق «من النظام الشمولي إلى النظام الحر» (عام 2003، بفعل الغزو الأميركي)، بات الدستور ينص على «دعم القطاع الخاص، وتخلّي الدولة تدريجياً عن دور الاشتراك في كل النشاطات الاقتصادية»، لتكتفي بدور «الناظم» للاقتصاد، كما أوضح محافظ البنك المركزي العراقي، علي العلاق، في كلمته أمام مؤتمر «التمويل في العراق 2016»، الذي افتُتح أمس في بيروت، برعاية البنك المركزي العراقي وصندوق النقد الدولي، من بين مؤسسات مالية أخرى.
تحدث العلاق عن «فرص كبيرة لتنويع القاعدة الإنتاجية» يتيحها تطبيق هذا التوجه، لافتاً إلى أن مساهمة الإنتاج السلعي من مجمل الناتج تبلغ 16% فقط، ما يعني أن ثمة مجالاً واسعاً لنمو الزراعة والصناعة، ليشير في هذا السياق إلى اقتراب العراق من تحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج الحنطة، فيما كان يستورد ملايين الأطنان منها سنوياً. وقال العلاق إن للقطاع المصرفي دوراً مهماً في دعم النمو وتخفيض نسبة البطالة في بلاده، وذلك عبر تمويل مختلف القطاعات و«توسيع القدرة الشرائية» للمواطنين.
أمل طربيه أن تضطلع المصارف بدور «أساسي» في إعادة الإعمار

ويشير العلاق إلى أن مصدر الدخل الأساس في العراق هو إنفاق الحكومة، المستند أساساً إلى عائدات البترول، ليقول إن هذا الإنفاق «يخضع لضغوط سياسية» لا تأخذ في الاعتبار الآثار الاقتصادية للإنفاق العام. أما البنك المركزي، بحسب العلاق، فهو يلحظ آثار السياسة المالية للحكومة على مستوى التضخم وعجز الموازنة. وإن كان محافظ البنك المركزي يدعو «إلى التنسيق بين السياستين» المالية والنقدية، فإن صندوق النقد الدولي، الذي بات فعلياً وصيّاً على السياستين المالية والنقدية للعراق، يُخضع السياسة المالية للدول لأولوية «توازن الموازنة». ويعني ذلك عملياً تخفيض الإنفاق الاستثماري والاجتماعي إلى حدوده الدنيا، وإعطاء الأولوية للإنفاق على خدمة الدين الذي بدأ العراق بمراكمته سريعاً، وبكلفة عالية. ونتيجة السياسات «التقشفية» هذه باتت معروفة جيداً، إذ خبر نتائجها الكارثية العديد من البلدان، من أميركا اللاتينية إلى بلادنا، مروراً باليونان.
في هذا السياق، تحدث وزير التخطيط العراقي، سلمان الجميلي، عن الخطة الخمسية للأعوام 2013 ــ 2017، والتي أنفقت الحكومة بموجبها 75 مليار دولار، أي 20% من إجمالي الاستثمار، قبل أن تعيد وزارته النظر فيها، بسبب انهيار أسعار النفط وبسبب كلفة محاربة تنظيم «داعش»، لتعمد الحكومة إلى «ترشيق» الإنفاق الاستثماري، والتوجه نحو القطاع الخاص، لـ«عدم الاعتماد على الخزينة العامة»، على حدّ قوله. ويتطلب ذلك خلق «بيئة استثمارية جاذبة» لرؤوس الأموال الأجنبية، و«تأهيل الشركات المملوكة من قبل الدولة، وتحويلها إلى شركات خاصة رابحة»، واعتماد «الشراكة (بين القطاعين العام والخاص) وتفرّعاتها»، من قبيل المشاريع ذات «التمويل الآجل»، أي التمويل بالاستدانة، ومشاريع الـBOT، وبرامج «دعم المؤسسات المتوسطة والصغيرة»، بحسب الجميلي. ويظهر جلياً في خطاب وزير التخطيط التبنّي الكامل للوصفات الجاهزة للمؤسسات المالية الأميركية المسماة دولية، أي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وأشار الجميلي إلى أن البنك المركزي العراقي يعمل على إعداد تقارير مماثلة لتلك التي يعمل بها البنك الدولي، تسهيلاً لرقابة الأخير على عمل المصرف المركزي.
وكان رئيس مجلس إدارة بنك الاعتماد اللبناني، جوزيف طربيه، ممثلاً المصارف اللبنانية، قد تحدث في افتتاح المؤتمر عن آفاق تبادل الخبرات بين المصارف اللبنانية والعراقية، وعن إمكانية مساهمة الأولى في «تحديث» النظام المصرفي في العراق، خاصّاً بالذكر «التشدد» في تطبيق سياسة «الامتثال» للقوانين الأميركية المتعلقة بـ«مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب». وأعرب عن أمله بأن تضطلع المصارف بدور «أساسي» في إعادة إعمار العراق. ولكن ربّ سائل عن «الخبرات» في مجال إعادة الإعمار، التي تريد المصارف اللبنانية نقلها إلى نظيراتها العراقية. فمن شأن نقل النموذج اللبناني إلى العراق، في هذا المجال، أن يكون كارثياً، خاصة لجهة تركيز التوظيفات في سندات الدين السيادية، والتركيز على الإقراض الاستهلاكي والتجاري، لا الإنتاجي.