اليوم، ومع هذا الانفجار الثقافي المدوي، والذي يجتاح عالمنا العربي، من «هادره إلى ثائره»، تبدو المفاهيم والمعايير المؤسسة للأداء الثقافي لم تعد صالحة للاستخدام البشري، ليس بمعنى فقدان الصلاحية فقط، إنما وأيضاً عدم مقدرته، وذلك بعد تجربتها وممارستها لمدة طويلة، على إنتاج ثقافة بالمعنى الإيجابي. أي ثقافة منتجة ومفيدة للصالح العام. وهكذا ظهرت احتداماتها كمعارك وهمية، ومحسومة النتائج سلفاً لصالح التخلّف. وهذا ما يفسّر الاندحار الحالي، المتمظهر بكل صور الفشل الاجتماعي والوطني، بدءاً من الطائفية وليس انتهاءً بالقعود عن الإنتاج والإبداع. ربما كانت الهوية، واحتداماتها التفكيرية، وما وصلت اليه الآن هي خير مثال على معارك مضيعة الوقت والعلم في جزافيات وهمية وخرافية، تبدأ من أسئلة ضرورية أنتجها عصر الأنوار، ثمّ أجاب عليه ارتقائياً وعملياً وأخذناها عنه، مثل سؤال من نحن. السؤال الذي ظل يراوح بين الألسنة والشفاه إلى يومنا هذا، في تداول شفاهي، وصل إلى تعريف للذات يقترح إعلان هوية تتمثل بتعريف ذاتي لنا هو: أننا لسنا الآخر... فقط، أو أنّ الآخر عكسنا فقط. وعليك ملاحظة هوية الآخر لتلحظ من نحن، مما يجعل من الآخر عدواً ضرورياً وبالضرورة، دون أن نتمثل أية قيمة إنتاجية لهذا السؤال، حتى أصبح هو (من نحن) وموجة الإجابات عليه تؤدي إلى وهم تحاقدي، يحاول الحفاظ على «عرق» ثقافي نقي واستثنائي، ينتهي إلى استبداد مؤكد ومقدس، لتكون معركة الهوية هذه من أشرس «غزواتنا» التي استهلكت من عمرنا الثقافي الكثير وانتهت إلى سكاكين وفك رقاب.
لم ينجح «مفكرو» العالم العربي في غالبيتهم في تحديد وإعلان هوية ما جامعة مانعة واضحة، لا تكيد العدا، وإنما تنافسهم على الارتقاء. فالهوية في هذا الزمان هي إعلان للمكانة، وليست مجرد دعاية عن المكان وسكانه، فماذا يفيد أن نكون عرباً أو أكراداً أو أمازيغاً، فراعنة أم فينيقيين أم مورسكيين، مسلمين أو مسيحيين أو صابئة، شيعة أو سنة أو كاثوليك. نسكن بقعة جغرافية معروفة المكان تقريباً نظراً لتقلص حدودها وانكماشها حسب الظروف. ماذا يفيدنا، طالما ما دامنا منقوعين في مسلسل التخلف الذي لا ينتهي، معلنين بطرافة فانتازية أننا مصرون على التخلف حتى آخر نفس، منتجين ما يثبت ذلك عملياً دون أية أوهام أو أعذار أو حتى إعادة قراءة. كالحروب الطائفية والقبلية وكل أنواع الاستبداد وأشكاله.
طبعاً يبدو المقدس سقفاً مستلفاً للتفكير بكافة صنوفه وأدواته ومبتغاه، فشرط التفكير العربي الأول هو أن تصل إلى نتيجة تكون منضوية داخل الاكتمال المعرفي لهذا المقدس. أو تكون وإن بشكل خطر متوائماً معه. وبما أن الهوية بمعناها الحديث الفعال تنتمي إلى حقل معرفي مختلف تماما عن الحقل المعرفي المتداول عربياً أو بشكل أدق باللغة العربية، فنحن أمام معضلة مقروءة سلفاً، وهي عدم الوصول إلى نتائج غير تلك التي وصلنا إليها، ويتم تبرير هذه النتائج على أنّ الأغلبية «الساحقة» تريد ذلك، وكأن الأغلبيات العربية موضوعة في الحقل المعرفي الصحيح! على الرغم من التشديد على أميتها، أو كأنها تستطيع نقد وقبول أو رفض، ما يقرره ويقره الاستبداد الثقافي! وعلى الرغم من هذا التبرير التلفيقي، لما يزل أغلب المتفكرين العرب يتبجحون فخراً بإنجازاتهم، في حضرة الشاشات المتنوعة لميديا العدو الضرورة. ليصبح المقدس ينتمي إلى ماض لا يمكن تحقيله في الحقل المعرفي المطلوب حديث الإعلان الهوية. لذا وجب تغيير الحقل المعرفي برمته باستخدام العلم، بعد تثبيطه وإيقاف تحوله إلى معرفة، عبر تأثيم المعرفة وقمعها بحجة استيرادها من أراض عدوة، ومع ذلك نرى هؤلاء الرجال والنساء المدججين «بالعلم»، وبحفريات عابد الجابري، وتفكيكات التيزيني، ورؤيا ميشيل عفلق، وغيرهم لم يستطيعوا الوصول إلى رؤيا محددة للهوية يمكن ممارستها أو حتى تبنيها دون أن يتدخل المقدس في تأسيسها، أو تكون صالحة للتداول أو التفاعل المعرفي التنافسي حكماً. وها «نحن» لسنا عرباً ولا أكراداً ولا أمازيغ ولا فراعنة ولا فينيقيون، بسبب ذاك الخطأ التأسيسي في اختيار الحقل المعرفي، الذي أنتج اختلاط وتعاكس السياقات الحقوقية التراثية في فوضى تحاقدية بدعوى إنتاج الهوية. وها نحن نشهد حروباً قطيعية على أساس أهلية الهوية للحق والباطل، دون أي احتساب أو احترام للمصلحة الجمعية، السبب المؤسس للوجود عبر متلازمة الخطأ والصواب.
أقصى ما يمكن أن يصل إليه هؤلاء المتفكرون أنّ الهوية «ديناميكية»! أو أننا نعيش ضمن «دوائر» هوياتية متداخلة لا نستطيع الفكاك منها وهكذا دواليك من ابتسارات اللغة، متناسين تماماً إحدى أهم القيم العليا المعاصرة وهي «الاندماج» وفي المجال الحقوقي، تحديداً هو أحد أهم العناصر المؤسسة للتفكير في إنتاج الهوية. وتبدو السياقات التفكيرية رافضة له وتعمل على تقويضه، داخل الحدود وعبرها إلى بلاد المهاجر والمغتربات، فالهويات المفكر فيها تراثياً ترفض الاندماج، بناء على عدم التساوي الحقوقي للهوية الموروثة ذات المحتد الثقافي النبيل مع الهويات الأقل نبلاً تراثيا أو أنها «مفبركة» حداثوياً، ما يجعلها في مرتبة أدنى حقوقياً على الأقل. تماماً كما في علم الأنساب، وهكذا نصل إلى عنصرية مهينة، مبنية على أساس متماسك من التهويم المعلومي التبسيطي الذي يعتمد الأكثريات «الساحقة» في إثبات نظريته التي لا يأتيها الباطل بالبداهة، كتمثل بدائي لدموقراطية مقترحة، أو إلى السلاح يا أصحاب المحتد الثقافي النبيل. وهنا تبدو «الديناميكية» و«دوائر الهويات» وغيرهما، عبارة عن شعارات مقطوفة من قراءات متناثرة هنا وهناك لا تسمن ولا تغني من جوع، وغير صالحة إلا إلى التواؤم اليائس مع منظومات التفكير المسقوفة، والتي تحدد الاندماج وتقسره على شروط من خارج حقله المعرفي الحقوقي، في خروج متبجح ومعتز بنفسه، على منتجات حقوق الإنسان التي راكمتها البشرية والأمم على أنها شأن داخلي يستفاد منه في رفعة مواطنيها ممن يحملون هويتها.
قل لي ماذا تنتج أقل لك من أنت... لتبدو «الديناميكية» و«دوائر الهويات» المقطوفة من ثقافة العدو (وليس ثقافة المنافس على أية حال)، بالإضافة إلى شعاريتها المغرقة، تلعب خارج المقصود منها في البلاد التي أنتجتها، فالإنتاج الإبداعي التنافسي، صناعة وغلالاً وفكراً، هو من يضيء إعلانات الهوية، وليس النداء الصاخب على أحقية التراث في تصنيع الهوية. فالشعوب تحيا هي وتراثها (الذي تحوله إلى فلكلور عادة) بالإنتاج المحيي للطاقة الإجتماعية، التي تقدم نفسها عبر إنتاجها، الذي يحتاج إلى «اندماج» اجتماعي بصفته الحقوقية على الأقل للوصول إلى هيئة قابلة للتوصيف بهوية. في حين لم تستطع الشعوب العربية بكل محتدها الثقافي «الأرقى» وكل تراثها «النبيل»، وكل ديناميكيتها الموهومة، وكل معاركها الدموية. تجاوز «محنة» الزواج المدني «الاختياري» كاستحقاق بسيط وبدئي، للوصول إلى هوية يمكن للآخر قراءتها كإعلان بلغة معاصرة مفهومة. لتبدو هنا القيم المؤسسة قيماً موهومة، ومثال عنها قيمة العمل المتهافتة في تجمعاتنا البشرية (العربية)، كركن أساسي من أركان الهوية المعني بالإنتاج.
وهكذا ولأكثر من مئة وخمسين عاماً (أي منذ التململ من العثماني حوالى عام 1850)، وعلى الرغم من وضوح الطريق المؤدية إلى تحديد الهوية وإعلانها، وتجريبها ونجاحها في أربع أركان الأرض، لما تزل هوياتنا (العربية) رهن تبديد الطاقات على تحديد جنس الملائكة.
* سيناريست سوري