في أرشيف الكواليس الإسرائيلية، يُروى أن موشيه ديان، وزير الخارجية في حينه، سعى عشية كامب ديفيد إلى إقناع رئيس الوزراء، مناحيم بيغين، بالموافقة على طرح كل المواضيع للتفاوض، بما في ذلك القدس. القدس؟ قال بيغين مصدوماً. أجاب ديان بثقة: «نعم. هم سيطالبون بها، ونحن سنقول لا. هذه هي طبيعة المفاوضات».
تكتسي هذه الحادثة دلالة متجددة بمناسبة الإعلان عن استئناف المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل اليوم، والتقديم الاحتفالي لواقعة أن جميع القضايا ستكون مطروحة فيها للبحثِ بالتوازي، بدءاً بالأمن وصولا إلى الحدود مروراً بالقدس والمستوطنات واللاجئين والإطار القانوني للكيان الفلسطيني العتيد أن يرث السلطة.
وإذا لم يكن ذلك كافياً لإضفاء بعدٍ سوريالي على المشهد، فثمة عنوان إضافي يفيد في ذلك، وهو الهدف المعلن بالتوصل إلى اتفاق حول هذه المسائل، وتالياً إلى حل نهائي للصراع، في غضون تسعة أشهر.
بعباراتٍ أخرى، يمكن إعادة صوغ الوقائع المشار إليها أعلاه كالتالي: سيجلس إلى طاولة المفاوضات في القدس اليوم ممثلون عن حكومة إسرائيلية هي بين الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، بالكاد نجح رئيسها في إمرار قرار الإفراج عن 104 أسرى فلسطينيين يعود تاريخ اعتقالهم إلى ما قبل اتفاقيات أوسلو، وهم ــ المفاوضون الإسرائيليون ــ يعتزمون التوصل إلى اتفاقٍ سياسي ينهي صراعاً يزيد عمره على مئة عام، عجز عن تحقيقه خمسة رؤساء وزراء إسرائيليين على مدى عشرين عاماً من المفاوضات التي حصلت في ظل استقرار إقليمي وأحادية قطبية دولية شكّلا ظرفاً مثالياً في الانحياز الموضوعي لإسرائيل.
غير أن المفاوضات ستجري مع سلطة فلسطينية مشطورة بين كيانين، أحدهما «إرهابي» يتناقض جوهرياً مع مبدأ المساومة على فلسطين التاريخية، فيما الآخر لا يمكنه أن يقبل بأقل مما عُرض عليه في جولات سابقة من قبل حكومتي إيهود باراك وإيهود أولمرت، وهو سقفٌ تفاوضي لن تبلغه «تنازلات» حكومة نتنياهو.
ليس فقط لأن الرؤية التي قدمها الأخير في خطاب «بار إيلان» الشهير بشأن تصوره للدولة الفلسطينية التي أعلن موافقته على مبدأ قيامها لا تتضمن الحد الأدنى، مما عرضه أولمرت مثلا في أنابوليس 2008. وللتذكير، فقد عرض الأخير انسحابا من نحو 94 بالمئة من أراضي الضفة الغربية (يرفض نتنياهو أصلا مبدأ حدود 67)، وكذلك من منطقة غور الأردن (يصر نتنياهو على التواجد العسكري فيها)، وتنازلا عن كل الأحياء العربية في القدس وإقامة إدارة دولية تكون مسؤولة عن شؤون «الحوض المقدس» (نتنياهو هو الذي صك مصطلح «القدس صخرة وجودنا» وهو يرفض التفاوض عليها) مع القبول بعودة رمزية للاجئين إلى الخط الأخضر.
بل لأن ثمة وقائع استيطانية تفرض نفسها على الواقع السياسي الإسرائيلي، وهي من النوع الذي تتجاوز معالجتُها قدرة أية حكومة إسرائيلية، أو حتى قدرة المجتمع الإسرائيلي على تحمل تبعاتها الداخلية. وليس الحديث عن الكتل الاستيطانية التي يوجد إجماع إسرائيلي على حتمية بقائها تحت السيادة الإسرائيلية، وإنما عن نحو 80 ألف مستوطن يقنطون في مستوطنات متفرقة خارج هذه الكتل يصعب تصور إخلائهم وفقا لأية آلية.
بماذا يمكن تفسير المشهد التفاوضي إذاً؟ يمكن تلمس الإجابة في تصريح لنتنياهو نفسه كان يعلل فيه قرار الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، إذ قال «إن القرار هو ثمن باهظ جدا من أجل الدخول في العملية السياسية، لكن لعدم الدخول في العملية ثمناً أيضا. إن الدخول في العملية السياسية يساعد المصالح الإستراتيجية لدولة إسرائيل». والكلمة المفتاحية في كلام نتنياهو هي «الدخول»، مما يشي بأن الهدف الإسرائيلي من وراء كل الاحتفال التفاوضي ليس التوصل إلى اتفاق يقر الطرفان ضمناً بأن احتمالاته تكاد تكون صفرية، وإنما نفس الانخراط السياسي «العلني» في المفاوضات، الأمر الذي يمنح إسرائيل الصورة التي تريدها كمتفاعلٍ مع المصالح الغربية في تثبيت الاستقرار الإقليمي من خلال إظهارها التعاون في حل الصراع الأبرز في المنطقة.
والأهم أن الانخراط في العملية السياسية يوسع هامش التحرر الإسرائيلي من العزلة الدولية التي بدأت تأخذ أخيرا شكل القطيعة الاقتصادية والأكاديمية المرشحة للتصاعد، خصوصاً في ضوء القرار الأخير للاتحاد الأوروبي بفرض نوع من العقوبات الاقتصادية على المستوطنات الكائنة وراء الخط الأخضر. وإذا كان نتنياهو يسمع همس رجال الأعمال الإسرائيليين الذين يحذرون من الضرر الذي يسببه الجمود السياسي على الاقتصاد الإسرائيلي، فإن وزير العدل، تسيبي ليفني، كانت أصرح في التعبير عن هذه المخاوف حين حذرت من تنامي القطيعة الاقتصادية الأوروبية لإسرائيل ومن تكاثر الأبواب الموصدة في وجه إسرائيل على الحلبة الدولية مع مرور الوقت بفعل جمود العملية السياسية. يضاف إلى ذلك أن المصلحة الإسرائيلية الأمنية في استئناف المفاوضات، والتي كان عبر عنها قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال قبل أسابيع، نيتسان ألون، إذ توقع في موقف لافت حصول تصعيد ميداني في الضفة الغربية إذا انتهت مساعد وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، لاستئناف المفاوضات بدون نتائج. علما أن تقارير للجيش والشاباك كانت قد أشارت إلى وجود ارتفاع ملحوظ في الأنشطة الفلسطينية الميدانية المناهضة للاحتلال خلال الأشهر الأخير.
كذلك، لا يغيب عن بال السياسة الإسرائيلية هاجس التلويح الفلسطيني باستئناف إجراءات الحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة التي ستنعقد جمعيتها العامة في أيلول القادم. ومن المؤكد أن إسرائيل ستجد نفسها أكثر عزلة في مواجهة المساعي الفلسطينية على هذا الصعيد فيما لو بلغت هذا الاستحقاق في ظل جمود يلف العملية السياسية.
لكن ماذا عن تحديد فترة التفاوض بتسعة أشهر، والمخاطر التي يمكن أن تترتب على انقضاء هذه الفترة من دون تحقيق اختراق فعلي؟
أولاً، بإمكان نتنياهو الرهان على تمديد فترة التفاوض إلى أجل أطول من المحدد، وهو رهان يستند إلى سوابق إسرائيلية ناجحة في هذا المجال (اتفاقية أوسلو نصت مثلا على إنهاء التفاوض على قضايا الوضع النهائي خلال خمس سنوات من توقيع الاتفاقية، أي حتى عام 1998، وهو الأمر الذي لم يحصل). ثانياً، سيسعى نتنياهو جاهدا إلى تحقيق هدف إستراتيجي أثناء المفاوضات هو إعادة تعويم مقولة «اللاشريك» الفلسطيني كما فعل باراك من قبله، بحيث يحيل الاتهامات والضغوط الدولية على الجانب الفلسطيني مع فشل المفاوضات. وثالثاً، في ظل الفجوة غير القابلة للجسر بين مواقف الطرفين، لا يستبعد أن يحاول نتنياهو في المراحل المتأخرة للتفاوض تحوير غايتها لتدور حول الاعتراف الإسرائيلي والأميركي بالدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، الأمر الذي يمكن أن يشكل مخرجا للأطراف كافة حتى أجل مسمى.