غزة | لم تكن ليلة أمس تشبه غيرها من ليالي غزّة. 15 قمراً أناروا سماءها، وقلبوا ليلها نهاراً تشعّ منه كلّ عوامل الحياة والفرح. مشهدٌ يبدو ناصع البياض ظاهرياً، غير أنه بدا قاتماً بنظر كثيرين لأنّه تأخّر وأرادت منه سلطة الاحتلال المناورة والاستعراض. لم تتوقف غزّة عن الرقص فرحاً حتى ساعات الصباح لتحرير الدفعة الأولى من أسرى ما قبل أوسلو. الرايات الصفراء تعانقت مع الخضراء، والأهازيج والزغاريد علت أصواتها عند معبر بيت حانون «إيرز» شمال قطاع غزة، فيما الحسرة كانت تكوي المؤمنين بدرب المقاومة لانتزاع حرية الأسرى بلا استثناء من أنياب السجان الإسرائيلي. لم يتمكن أولئك المؤمنون من الاستفاقة من صدمة «أسرى مقابل مستوطنات»، وكأنّ النظرية باتت «أعطِني أسيراً أعطِك أرضاً»؛ فالرشوة السياسية سيدة الموقف هنا، والعلاقة طردية بين تحرير الأسرى وبناء آلاف الوحدات الاستيطانية في القدس المحتلة خصوصاً. لا مجال لأي غزيّ لأن يعبّر عن غصته علناً من ضعف المفاوض الفلسطيني، لا لخوفهم من انتقاد كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات، بل لإبصارهم نصف الكأس الممتلئ؛ فلم يتمكنوا من الهروب من حقيقة أن ستةً وعشرين أسيراً تنفسوا طعم الحرية.
لا تكاد عائلة نهاد جندية تصدق أن ابنها لا يزال حياً أمامها. خطفه العدوّ منها قبل أربعة وعشرين عاماً، وحكم عليه بالسجن المؤبد مدى الحياة. أربعة وعشرون عاماً لم تكن كفيلةً إلا بالانتظار والتلهف لرؤيته وضمّه إلى صدرها. لحظات فارقة تضيف للحياة حلاوةً، فلم يستطع أشقاء الأسير المحرر جندية من حبس دموعهم. غيّب الموت والديه اللذين توفيا شوقاً له بعدما أُصيبا بمرض الضغط والسكري، لكنه عجز عن تغييبهما، حينما حطت قدماه أرض غزة. أراد أن يكون قبر والديه أول وجهاته.
يبلغ جندية اليوم من العمر 40 عاماً، خرج كهلاً بعدما دخل السجن شاباً صغيراً لا يتجاوز 16 عاماً، برفقة صديق دربه محمد حمدية. حمدية وجندية المنتميان إلى حركة «فتح» نفذا معاً عملية ثأرٍ في الداخل الفلسطيني المحتل، وقتلا عام 1989 إسرائيلياً بالسلاح الأبيض.
في بيت جندية الذي يعجّ بالمهنئين، يقول جندية لـ«الأخبار»: «لم أكن أتوقع أن أبقى معتقلاً في سجون الاحتلال طوال الفترة الماضية، وخاصةً أنني كنت في مرحلة الطفولة، لكن حمداً لله الذي منّ علينا اليوم بالتحرر من قيود الاحتلال». ويبرق جندية رسالة أمل إلى كل الفلسطينيين في جميع أماكن وجودهم بضرورة مؤازرة الأسرى وتصعيد خطواتهم وفعالياتهم الاحتجاجية على ممارسات الاحتلال التعسفية بحقهم.
ولم تذق عائلة حمدية كذلك طعماً للسعادة كالذي تذوّقته ليلة أمس، حينما طلّ ابنها محمد كالفارس المقدام رافعاً علامة النصر، متجاوزاً حاجز «إيريز»، فلم تتمالك سمية شقيقة حمدية ذاتها من فرط إحساسها بحبيبها محمد، لتأخذه في حضن عميق دافئ لا يعرف أي مسافة زمنية. تقول سمية لـ«الأخبار»: «لن نشعر بالانتصار الحقيقي إلا بتبييض سجون الاحتلال الإسرائيلي من كافة الأسرى، فهم وقود مقاومتنا وشعلة كفاحنا»، متمنيةً أن تحيي فصائل المقاومة خطوات خطف جنود الاحتلال لإبرام صفقات تبادل الأسرى مع الجانب الإسرائيلي.
أم الأسير ضياء الآغا، المحكوم بالسجن المؤبّد مدى الحياة والمعتقل منذ ما قبل أوسلو، عجزت عن المكوث في منزلها ومتابعة لحظات الإفراج على شاشات التلفزيون، فأصرّت على أن تشارك صديقاتها من أمهات الأسرى، الذين أفرج عنهم ليلة أمس. لم يكن خافياً على أم ضياء أن ابنها لن يكون مدرجاً في الدفعة الأولى ضمن أربع دفعات متفقٍ عليها مع سلطة رام الله على مدار ثمانية أشهر لإطلاق سراح 104 أسرى قدامى، غير أنها كانت على موعد مع تحرر أبنائها الأسرى، لأنها ترى في وجوههم تفاصيل وجه ضياء الذي لا يغيب عن بالها.
في المقابل، أصرّ البعض على عقد المقارنات بين صفقة وفاء الأحرار التي حررت فصائل المقاومة بموجبها أكثر من 1000 أسير، وهذه الصفقة التي دفع الفلسطينيون مقابلها مساحات شاسعة من أراضيهم في الضفة الغربية والقدس المحتلة، معتبرين ما أنتجته سلطة رام الله مخيّباً للآمال وموجعاً إلى أبعد حد ممكن. وأكد مدير مركز «أحرار لدراسات الأسرى وحقوق الإنسان»، فؤاد الخفش، أن أسماء الأسرى الـ26 كانت محبطة ومخيبة لآمال الأسرى وعائلاتهم وعموم أبناء الشعب الفلسطيني، لأنها لم تعتمد على مبدأ الأقدمية.
وأشار الخفش إلى أن من بين الأسرى الذين أفرج الاحتلال عنهم أسيرين من «حماس» أوشكت محكوميتهما على الانتهاء، هما سمير حسين غانم مرتجى من غزة ومعتقل منذ 29/10/1993 ومحكوم بـ20 عاماً، والأسير جميل عبد الوهاب جمال النتشة من الخليل ومعتقل منذ 16/12/1992 ومحكوم بـ21 عاماً، ولم يبقَ لهما سوى 3 أشهر. ونشر الخفش على صفحته الشخصية على «الفيسبوك» التعهد الذي وقّعه الأسرى المحررون قبيل الإفراج عنهم، وينص على: «أنا الموقع أدناه... رقم الهوية… أتعهد بالامتناع عن كل أعمال الإرهاب والعنف، كما أعلن أنني أعرف تمام المعرفة بأن التوقيع على هذه الوثيقة هو شرط لإخراجي من السجن وأعلم بأن هذا الإفراج قد تم في إطار مفاوضات مسيرة السلام التي أدعمها بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية لتنفيذ إعلان المبادئ الذي تم التوقيع عليه في 13/9/1993».