اليرموك | قبل ان يبدأ الطلاب امتحانات الفصل الدراسي الأول، كان يوم خروج أهلنا من مخيم اليرموك. اعتقدنا في البداية أن الحياة توقفت في المخيم و أصبح همّ الناس، فقط البقاء على قيد الحياة، لكن على ما يبدو كنا مخطئين.بدأت الحكاية بحوالي أربعين إلى خمسين أستاذا من مخيم اليرموك، فتحت بفضلهم وإيمانهم برسالتهم، ست مدارس غير رسمية، إضافة إلى مدرسة ثانوية وحيدة، افتتحت بتكليف نظامي حكومي.

وبذلك أصبح لدينا ما بين 1800 إلى 2000 طالب ارتادوا المدارس وتحدوا الموت، فلم يكن من المعقول أن يذهب تعب هؤلاء سدى! تقولت الناس في البداية عن عدم اعتراف رسمي بهؤلاء الطلاب أو بامتحاناتهم، فقررت لجنة التربية والتعليم التي تشكلت في المخيم من قبل الناشطين، مقابلة رئاسة «الأونروا» باسم الهيئة الوطنية الأهلية لمخيم اليرموك (التي انبثقت عنها لجنة التعليم) مع رئيس الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين. وفعلاً اعترف مدير التربية في الأونروا رسميا بهذه المدارس شريطة أن تكون امتحاناتها موحّدة بمواعيد محددة. وتكفلت لجنة التربية والتعليم بإدخال أوراق الامتحانات الى المخيم المحاصر. لكن يبدو أن الحرب حاولت تحديهم مرة أخرى: فقد عاش المخيم في تلك الفترة سبعة أيام بدون كهرباء، مع إيقاف الدخول والخروج منه وإليه بسبب تردي الأوضاع الأمنية. ما العمل؟ لم يكن باليد حيلة سوى الحصول على أسئلة الامتحانات عن طريق البريد الالكتروني. ولكن اين الكهرباء حتى يكون هناك انترنت؟ كانت منطقة «الريجة» المنطقة الوحيدة التي تصل إليها الكهرباء لحسن حظ الطلبة، هكذا، طبعت أوراق الامتحانات وتم نقلها إلى المراكز المعتمدة بواسطة ثلاث «بسكليتات» وعربة خضرة «مبنشرة» (اي على ثلاثة دواليب من اصل اربعة)! لكن،حتى هي لم تسلم من القنص فنالت ثلاث رصاصات خلال مهمتها التربوية! بعد حوالي أسبوعين، سلمت الأوراق للتصحيح.
مشوار شاق كان على الطلاب والأساتذة ان يتكبدوه. لم يمنعهم الارهاق من تسليم صور مصدقة للجلاء (وثيقة نتائج الامتحانات الفصلية) وإقامة حفلات النجاح وشراء هدايا للطلبة. هدايا شارك بتقدمتها صاحب أحد المحال في المخيم بـ 400 ل.س عوضا عن 3000 ل.س.
العديد من الأبطال المجهولين شاركوا في انقاذ العملية التعليمية في مخيم اليرموك، نذكر منهم من قاموا بتقدمة مجموعة اللقاحات الضرورية لأطفال المدارس، ومن قاموا على اقامة عيادة مجانية لهم.
لكن المشوار كان مرهقا أكثر لطلاب شهادتي الإعدادي والثانوي (البكالوريا) الذين تابعوا دروسهم في مدرسة «عبد القادر الحسيني»، وروضة «المرام»، وجامع «فلسطين». فمع اقتراب موعد الامتحانات تم تقدمة عدة اقتراحات للهيئة العامة لللاجئين الفلسطينيين، منها أن يتقدم الطلبة للامتحانات ضمن مراكز رسمية تفتتح في المخيم. كما كان هناك اقتراح آخر يقضي بنقل الطلاب من داخل المخيم بواسطة حافلات إلى مراكز امتحاناتهم خارج المخيم، فأتى الرد برفض هذين الاقتراحين وغيرهما. وبعد إقفال الحاجز في منطقة الجسر (مدخل المخيم) لمدة سبعة أيام بسبب سوء الأوضاع الأمنية داخله، فكرت الهيئة التعليمية بتقديم مقترح جديد، يؤمن من خلاله مركز إيواء خارج المخيم لإقامة الطلاب خلال فترة امتحاناتهم النهائية. وقد تم فعلا قبول هذا الاقتراح لتكون بذلك مدرسة فلسطين (الأليانس) التابعة للأونروا في حي الأمين وسط دمشق تقريبا، ومعهد سعيد العاص، مركزين لإيواء حوالي 160 طالباً إعدادياً و160 طالباً ثانوياً بين ذكور وإناث. هذا المأوى الذي التقيت فيه الأستاذ يحيى العشماوي (ليزودني بكل المعلومات السابقة). لكن حين وصولي وجدته نائما من شدة الإرهاق بسبب فشله في إدخال طلبة البكالوريا، الذين أنهوا امتحاناتهم إلى المخيم. يومها كانت الاشتباكات مندلعة والأوضاع الأمنية سيئة للغاية، خاصة بعدما قتلت عبوة ناسفة طفلين عند مدخل المخيم. ويومها أيضا بدأ حوالي عشرين طالبا إضرابا عن الطعام تضامنا مع أهاليهم في المخيم.
الأستاذ عشماوي وهو أستاذ رسم، وفنان تشكيلي، يجيبني حينما سألته عن التفاصيل التي تجمع الطلاب، انهم: «رغم سوء وضعهم المادي إلا أنه إذا أضاع أحدهم مصروفه، يجمعون من مصروفهم الخاص ليعوضوا صديقهم».
لفتتني يومها غرف الشباب التي كانت أشبه باحدى غرف مخيمنا على سطح أحد الأبنية، والتي كان يجتمع فيها الأصدقاء خاصة أثناء الامتحانات، نفس الدفء ونفس الفوضى ونفس العزيمة ونفس اللمة.. ضحكاتهم تشبه الأمل.. بل وأجمل. لو كان أفلاطون بيننا اليوم، وعرف أن لدى شعبي ثلاثة طلاب استشهدوا عند خروجهم من صفهم وجُرح أستاذهم وصديقهم وأصر هذا الأخير على أن يذهب في اليوم التالي إلى المدرسة بيده اليمنى المصابة و يكتب باليد اليسرى، لكان اختار اسم هذا الطالب ليسمي به مدرسته بدلا من اسم أكاديموس.
ومن قصص تلامذة المخيم، قصة سيدرا، فتاة صغيرة نزحت من اليرموك إلى صحنايا. التحقت الصغيرة بالمدرسة هناك، إلا أن النار التي تأكل كل شيء جميل، اكلت ذراع سيدرا اليمنى بقذيفة وهي تلعب أمام منزلها الجديد.
سيدرا التي سمرتها أجمل من سمرة الأرض، كانت تصر على إخراجها من المستشفى لتلتحق بزميلاتها في الصف، وعندما وصلت إلى البيت سألت أمها ان كانت تستطيع الذهاب في الغد إلى المدرسة؟ فوعدتها أمها، لتسكتها، باصطحابها في اليوم التالي. لم تتوقع الأم أن ابنتها ستنهض باكرا في اليوم التالي لتذهب إلى مدرستها، بالتالي لم يكن أمامها الا اصطحاب ابنتها. رافقها أهلها اعتقادا منهم أن منظر ذراعها سيحرجها امام الزملاء، لكن ما أحرجني أنا شخصيا وما قد يحرج أي شخص يعرف سيدرا هو عظمة هذه الطفلة التي دخلت الصف رغم مصابها مشتاقة لأصدقائها، وأكملت فصلها الدراسي بيدها اليسرى حيث رفضت أي مساعدة من أساتذتها بالكتابة! لا بل انهم عرضوا عليها أن تقدم الامتحانات شفهيا، لكنها رفضت أن تكون أقل من زميلاتها. ونجحت سيدرا بتفوق ورفعت إلى الصف الخامس.
نجح أولادنا رغم أنف كل أنواع الأسلحة الطائشة التي تستهدف أحلامهم.
سيدرا، والاسم الصحيح هو «سدرة المنتهى»، هو اسم شجرة النبق القريبة من عرش الله. اليوم في هذه الحرب كل أبطال الحكايات هذه هم كتلك الشجرة الشامخة أمام عرشه.
يكتبون بأرواحهم لتعلو أمام خرابيش الموت والحرب التي لا نفهم منها سوى الفراغ الملطخ بالدم.



أهالي الطلاب ليسوا أقل بطولة من أولادهم وأساتذتهم. فأم عيسى التي نزحت بولدها الأصغر من المخيم تاركة ورائها عائلتها، والتي كانت تعمل في مشاغل الخياطة مقابل مدخول حقير، كانت توجه لها عبارات جارحة ملامة على تركها لعائلتها في المخيم. أم عيسى لم تكترث! كان لديها هدف واضح : «ورد»، ابنها الذي خرجت به خوفا عليه وعلى دراسته.
الفترة الاخيرة كانت الأصعب على ورد و أمه، اي فترة الامتحان. حيث صارت تنام في المشغل مع ابنها، بناءا على طلب صاحبة العمل. أنهى ورد امتحاناته فعلا لتأخذه أمه الى المخيم ويلتم شمل العائلة من جديد. أحضرت الجارة شهادة الجلاء للأم التي كتب فيها ان ورد نجح بتفوق ورفع الى الصف الخامس .