التقيت به عام 2007 بعد نكبة نهر البارد وأثناء نزوحنا الى مخيم البداوي. يومها زارنا متفقداً حالنا، شأنه شأن الكثيرين من الناشطين الاجانب آنذاك، أذكر منهم الصديقة كويفا باترلي. تعرّف ماثيو كاسل، الاميركي الجنسية الفلسطيني الهوى، الى عائلتي، واستمر في زيارتنا كلما سنحت له الفرصة. كنا نتابع زياراته الى العديد من الأقطار العربية ومنها بالطبع غزة والضفة حيث ذهب الى هناك مرات عديدة متضامناً مع أهلنا ضد العدوان الصهيوني.
مرت فترة طويلة من الزمن منذ لقائنا الأخير. كان مشغولاً بتنقلاته من بلد الى آخر متضامناً حيناً ومصوراً للأحداث حيناً آخر، الى أن اتصل بي منذ حوالى أسبوع متسائلاً بلهجته العربية المكسرة اللطيفة: «وينك هاج زياد بعدك بنهر البارد»؟ أجبته بنعم، فقال «أنا مشتاكلكم كتير وحابب أشوفكم، بس أنا بقدر بيفوت مخيم؟».
قلت له نعم لكنك بحاجة إلى تصريح لكونك أجنبياً، فأجاب «حابب أشوفك عشان أنا بدو يعمل فيلم وثائقي عنك».
أخبرني عن قصة الفيلم وهو يتحدث عن اليهود وعلاقتهم بالعرب والصهيونية، واحتلال فلسطين، وأيضاً عن الفرق بين اليهودي والصهيوني.
صراحة، الفكرة أعجبتني، خاصة أن الفيلم سيخاطب شعوب الغرب، فقبلت واتفقنا على اللقاء. يومان أو ثلاثة، إذا بهاتفي يرن وماثيو يقول: «شو هاج زياد؟ إحنا عالطريق. أخذنا تصريح وجايين على بارد».
فعلاً ساعات قليلة إذا به آتياً مع مخرجة الفيلم ومصورين ومترجم. طرح الفكرة بشكل أوسع، ومن ضمن فكرة الفيلم علاقتي به. وللمرة الاولى أخبرني أن أمه يهودية، وهو على خلاف شديد معها نتيجة نظرتها إلى الفلسطينيين وقضيتهم. وقال إنه حاول أن يقنعها بشتى الوسائل بأننا شعب اقتلع من أرضه بدون وجه حق، ولكن من دون جدوى.
صراحة، فوجئت بذلك. لكن زادني الامر إصراراً على مخاطبة الشعب اليهودي من خلالها.
بدأ التصوير في مقر إقامتي المؤقتة في بركسات الحديد، حيث إنني لم أعد بعد الى بيتي في المخيم القديم الذي لم يتم إعماره حتى الآن، رغم مرور 6 سنوات. تحدثت بالكثير عن قريتي التي لا أعرفها، حيث إني من مواليد لبنان ولم يأذن لي الله بزيارة قريتي «نحف» في الجليل الأعلى، مسقط رأس أبي وأجدادي. استغرب ماثيو كيف أتحدث عن قريتي بكل هذا الشغف والحب وأصفها كما لو أنني ولدت فيها. قلت له «يا ماثيو إنه الوطن الذي لو أننا لا نعيش فيه لكنه يعيش فينا». وبدا أن هذه الكلمات القليلة تركت أثراً كبيراً لديه. وقد لاحظت أكثر من مرة عينيه تمتلئان دمعاً.
وتكررت المشاهد بين البيت والبحر وتجاذب للحديث حول الوطن والنكبة والاقامة المؤقتة، الى البحر وعشقي له وللصيد. يومان من التصوير مضيا حتى قاربنا على النهاية، إذا به يفاجئني بقوله «أعطني عنوان أهلك بنحف». صراحة لم أتوقع منه أن يزورهم بهذه السرعة! قلت لربما سنحت له الفرصة يوماً ما. ولكن ما فاجأني هو اتصاله بعد التصوير بيومين. نظرت الى الهاتف، إذا برقم خارجي: «آلو هاج؟ إحنا بنحف عند قرايبك». للوهلة الاولى اعتقدت أنه يمازحني. قلت له «بتحكي جد؟» قال «والله. وبعد شوي بدنا نحكيك على السكايب اعطيني إيميلك». وبالفعل ساعة من الزمن إذا به يتصل مره أخرى: «هاج افتح سكايب أنا ناطرك». وبسرعه البرق فتحت السكايب. ويا الله! ما أروعها من لحظات! كل عائلتي موجودة في ساحة الدار، تنتظر. إنها المرة الاولى بعد أن التقينا عمتي وأولادها عام 2000 إثر تحرير الجنوب اللبناني. وقتها كان والدي ووالدتي على قيد الحياة. التقيناهم لسويعات من خلف شريط شائك في منطقة الضهيره التي ما إن تداولها الفلسطينيون كموقع غير منتظر للقاء حتى أعلنتها إسرائيل منطقة عسكرية مغلقة. ومن يومها لا نعرف عنهم شيئاً. مات والدي وفي قلبه حسرة، وماتت عمتي في فلسطين ولم تلتقي أخاها إلا لسويعات بعد دهر من الفراق. اجتمعت أنا وعائلتي واجتمع أهلي في نحف وعوائلهم وبدأ التعارف: هذا فلان وهذه فلانة وهذا ابن فلان إلخ. أكثرهم لا أعرف عنه إلا أنه من أهلي. واستدارت الكاميرا لتنقل لي صورة المدرسة التي تعلم فيها أبي، ومسجد القرية، والجبل الذي يرتفع في سماء نحف. لم أتمالك نفسي. وانهمرت دموعي سخية. ساعة أو أكثر مرت كأنها لحظات قليلة، أخذت فيها روحي تحلق في سماء القرية وبين أهلها، تعيش معهم لدقائق قصيرة مهما طالت، تمنيت خلالها أن تبقى تلك الروح هناك، تسكن حنايا القرية وأزقتها وتحوم فوق البيدر وأراضي الزيتون وبيارات الليمون، ولا تعود. ومن يعود من وطنه؟
الوطن، ذلك العشق الأبدي، تلك الهوية التي بدونها لا طعم ولا لون ولا رائحة لشيء. فلسطين. يا ساكنة الروح والمهج، عيوننا وقلوبنا ترحل إليك كل يوم. فمتى تلتحم الأجساد في عناق لا فراق بعده؟ أما أنت أخي ماثيو: فشكراً.