عندما ترتفع الاعتداءات الأميركية البريطانية على العراق إلى مستوى الحرب فإنها ستجر معها، على الأرجح، تصعيدا في العدوانية الإسرائيلية حيال الفلسطينيين، ونقلا للتوتر التركي الكردي نحو المناوشات العسكرية بالحد الأدنى والمواجهات الدامية بالحد الأقصى.
إننا قد نشهد في القريب، وفي هذه الرقعة الضيقة، حربا «كبرى» تستولد مواجهتين إقليميتين تطال واحدة منهما المصير الوطني الفلسطيني. وفي حين ستحاول الولايات المتحدة الإجهاز على ما تبقى من استقلال عراقي ستحاول إسرائيل وتركيا خنق الحكمين الذاتيين في الضفة والقطاع وكردستان.
سيتحول المشرق العربي إلى حقل رماية. وليس من المستبعد أن تفتح جبهة غير مباشرة أميركية إيرانية في العراق، وجبهة إسرائيلية لبنانية تبادر إليها حكومة اليمين المتطرف.
يجب القول إن أي عنف إسرائيلي إضافي ضد الفلسطينيين يأتي تحت مظلة العدوان الأميركي وفي سياقه. أما العنف التركي ضد الأكراد فهو حاصل حاصل سواء تسارعت الأمور في اتجاه فتح الجبهة الثانية الشمالية أو تباطأت و«اضطرت» أنقرة إلى التصرف وحدها.
وهكذا فإن التغيير الموعود في الشرق الأوسط لن ينتظر الاحتلال الأميركي للعراق. سيدخل في مرحلة متطورة في سيرورة هذا الاحتلال. فالقوتان الإقليميتان، إسرائيل وتركيا، وعلى التباين الواضح في موقفيهما، ستسعيان إلى تحقيق مصالحهما في ظل النيران الأميركية. وستتسامح واشنطن معهما ومع تجاوزهما للخطوط الصفراء لأن أوزان الأطراف المستهدفة غير جدية، ويتساوى في ذلك أكراد معزولون وفلسطينيون يحظون بعطف أشقائهم العرب.
ستنصرف تل أبيب وأنقرة، كل من موقعها، إلى فرض أمر واقع يؤخذ في الاعتبار عند صمت المدافع (إذا صمتت). وسيؤشر ذلك إلى أن التغيير الأميركي المنشود للشرق الأوسط لا يعني سوى دفع النظام العربي الراهن لإنهاء احتضاره المديد عبر تسليم الروح. ويكفي أن يكون المواطن مشاهدا عاديا للتلفزيون حتى يدرك أن تحلل هذا النظام دخل مرحلة متقدمة بحيث يجوز عليه «الموت الوديع» لإنهاء عذاباته. فمن شرم الشيخ إلى الدوحة ينتقل الزعماء العرب حاملين معهم، ردا على الأزمة المصيرية التي تهدد المنطقة، حقيبة تحتل الشتائم نصفها والعجز النصف الثاني. ولن تفعل الحروب المحتشدة في المنطقة سوى تفجير هذه العلاقات الهشة بين من يحاول درء العاصفة ومن يستعد للذهاب في «الأمركة» حتى النهاية، أي النهاية التي لا يكفي معها التأقلم مع السيد الأمبراطوري بل، أيضا، مع تابعه الإسرائيلي الإقليمي.
تتصرف تركيا وإسرائيل، ومرة ثانية على التباين في مواقفهما، وكأن الحرب تعنيهما. تريد الأولى الرسملة عليها وتكتفي الثانية بتقليل الخسائر من جرّائها. وفي المقابل يتصرف بعض العرب وكأن لا مجال لأي تدخل يقدمون عليه سوى إخراج القواعد العسكرية من نطاق السيادة الوطنية، واستبطان الإملاءات الأميركية بصفتها مبادرات نابعة عن استقلال الإرادة والحرص على... الشعب العراقي!
العرب منشقون حول الموقف من «الحرب الكبرى» في المنطقة. غير أن هذا الانشقاق لا يمنع أنها كانت ستكون صعبة جدا لولا «تسهيلات» يقدمونها. ومع أنهم موحدون، لفظا، في رفض السياسة الإسرائيلية حيال الفلسطينيين فإن ذلك غير ذي فائدة ولا يوحي أنه سيفيد في المستقبل. والعرب لا مبالين بمصير الشمال العراقي ولن يستطيعوا تصحيح أخطاء تاريخية حيال الأكراد ولا منع هؤلاء وتركيا من الاصطراع مع ما يعنيه ذلك من تأثير على طبيعة العلاقات مع المكونات الداخلية لبعض الأقطار.
إن «التمدد في انتظار البرابرة» هو السمة الحالية للوضع العربي. إنه تمدد يتعايش مع ضرب الجسم في قلبه، وربما اقتطاع أجزاء منه. وهو لا يتعارض مع مساعدة كسولة لهؤلاء البرابرة تأخذ على «الرافضين» قولهم إنه في الإمكان أحسن قليلا مما هو كائن.
ستعيش منطقتنا تضخما في العنف الموجه ضدها. إن «أم المعارك» أميركية هذه المرة (أيضا) وستتناسل منها ذرية متكاثرة.
06/03/2003