منذ 3 أشهر تقريباً، وتحديداً في أوائل شهر أيار الماضي، أعربت القاضية كارلا ديل بونتي، الموظفة المخضرمة في الأمم المتحدة، والمحققة في لجنة التحقيق الدولية المستقلة، التي أرسلت للتحقق من استخدام السلاح الكيميائي في خان العسل، عن ذهولها من أنّ الأدلة والشهادات التي سمعتها وجمعتها من ضحايا الجريمة وأطبائهم الذين قابلتهم في مستشفيات دول الجوار، تبيّن «على نحو قوي شكوكاً ملموسة بأن مقاتلي المعارضة هم من استخدموا غاز السارين، إلا أنّ هذه الشكوك الملموسة والقوية لم تتحول بعد إلى أدلة مبرمة».
وأضافت السيدة، التي كانت مرشحة لترؤس المحكمة الدولية من أجل لبنان، إنّه «ليس لدينا حتى الآن أية أدلة تثبت أنّ القوات السورية النظامية هي التي استخدمت هذا السلاح». يومها، أدلت ديل بونتي بهذا التصريح للتلفزيون السويسري، وما أن فعلت، حتى أصدرت لجنة التفتيش التابعة للأمم المتحدة، المسؤولة عن ارسال البعثة، بياناً تقول فيه إنّ التحقيق لم يتوصل بعد إلى نتائج واضحة، وإنه مستمر... دون أن تنفي ما قالته ممثلتها!
وبما أنّ التحقيق لم ينته بعد... حتى اليوم، فقد حال بيان لجنة التفتيش دون متابعة الصحافة للملف، حيث إنّه يمنع الكلام قبل نهاية التحقيق. هذا ما استنتجه، أيضاً، صحافيون مستقلون حين لاحظوا «أنّ تصريح ديل بونتي لم يحظ بتغطية اعلامية متناسبة مع أهميته». كذلك رجح هؤلاء «أنّ الإعلام لم يغط هذه القصة لأن ذلك يشوّه صورة مقاتلي الحرية في سوريا». أما مراسل «بي بي سي»، في جنيف، فقد رأى أنّ بيان لجنة الأمم المتحدة بعد كلام ديل بونتي أظهر أنّ اللجنة فوجئت بكلامها. وبما أنّ التحقيق لم ينتهِ، ولا يبدو أنّه سينتهي في الأفق المنظور قبل عدوان محتمل على سوريا، فان ذلك يعني أنّ القضية جرت لفلفتها، وخاصة أنّ «الموضوع» الآن لم يعد خان العسل ومسؤولية المعارضة عنه، بل «جريمة الغوطة». هكذا، ومنذ بداية اكتشاف جريمة الغوطة، لم يتحدث أحد، إلّا على نحو خجول جداً، عن اتهام محتمل للمعارضة المسلحة، وفعلياً لبعض الأجهزة التي تخترق هذه المعارضة، بالجريمة المريعة. هكذا، طغى ضجيج غاضب صادر بمعظمه عن رأي عام باتت تسيره (وهو معذور إلى حدّ ما) آلة ضخمة إعلامية وديبلوماسية وسياسية. آلة جربناها عام 2003 خلال التمهيد لاحتلال العراق، ضجيج مفاده التالي: هل ستسمح أميركا، حاكمة العالم، بتمرير النظام الأسدي لجريمة كهذه؟ وحفلت الصحافة بدعوات للعدوان على سوريا. لا بل إنّ «معارضين» سوريين، تبرعوا بتزويد الولايات المتحدة الأميركية بلائحة أهداف على أرض بلادهم، دون أن يرف لهم جفن وطنية!
حسناً. لنعد قليلاً إلى الخلف، وبالمنطق فقط: أولاً، كيف تستطيع حكومة أن توافق على دخول لجنة تحقيق دولية تريد التحقق من صحة أو عدم صحة استخدام هذه الحكومة للسلاح الكيميائي (وهي جريمة تتبرأ منها، وموقفها قوي في ذلك إن أخذنا بالاعتبار كلام ديل بونتي)، ثم تستخدمه في اليوم التالي بحضور اللجنة؟ فهل تريد إدانة نفسها حضورياً؟
ثالثاً: أعلنت تركيا منذ أسابيع أنها ألقت القبض على أراضيها على ثلاثة عناصر من «القاعدة» وبحوزتهم كمية كبيرة من غاز السارين. نقول تركيا لا روسيا! لماذا أعلنت تركيا هذا الأمر؟ كان بامكانها أن لا تفعل. ربما أرادت أن تثبت أن الدولة السورية غير قادرة على حماية ترسانتها الكيميائية! وقد يكون الإعلان للتبرؤ من أي مسؤولية في هجوم مفترض (وقتها) قد يقع، لكونها حامية بعض المعارضة السورية وتخوض حرباً ضد جارتها لأسباب انسانية أردوغانية بحتة. في كل الأحوال لا يبدو أن أحداً معني بكل ذلك. فالمطلوب الآن، كما كان مطلوباً أيام احتلال العراق، ضرب سوريا لأهداف لم تعد خافية على أحد. والآن هل سمع أحدكم ولو مرة واحدة من كبار العالم الذين تناولوا الموضوع أي إشارة ولو صغيرة تقول إنهم في صدد التحقق من «الجهة التي استخدمت فعلاً غاز السارين، إن كانت المعارضة المسلحة أم القوات السورية، أم جهة ثالثة حتى، قد تكون القاعدة؟ أبداً. فالمطلوب كما قلت لكم واحد: إدانة النظام السوري.
هكذا، يصرّح جون كيري، رئيس الديبلوماسية الأميركية، بأنّ لديه أدلة على تورط النظام السوري، لكنه لا يستطيع أن يصرح بمصادره حماية لهم! كأنه صحافي في «نيويورك تايمز» لا وزير خارجية إحدى أكبر دول العالم! يعني هو يعرف «وعم يحط بقلبو» وعلى الشعب الأميركي والعالم أجمع، والسوريين خاصة، أن نصدقه لأنه... كيري!
والآن: بما أنّ الشكوك «قوية وملموسة» على استخدام المعارضة «الكيميائي» في خان العسل، وإن كانت الدولة السورية بالمنطق لا يمكن أن تكون من استخدم هذا السلاح في الغوطة، فلم لا يرتاب أحد بالمعارضة ولو من باب تبرئتها على الأقل؟ ماذا لو كانت المعارضة هي التي استخدمت هذا السلاح استسقاء لوابل التوماهوك؟ ما الذي يمنع من يشتغل منذ سنوات على تدخل عسكري في سوريا تحت البند السابع أن يفعلها؟ وازع أخلاقي؟ وطني؟ أم انساني؟
لست بصدد تبرئة النظام السوري. إنّه شأن السوريين أولاً، لكن، احترموا عقولنا قليلاً. سيناقش الكونغرس بعد التاسع من أيلول اعطاء الاذن للرئيس الأميركي باراك أوباما من أجل عدوان «إنساني» على سوريا. قد يعطيه الإذن لضربة محدودة. وقد لا يعطيه إياه، فيكون قد أمّن له مخرجاً ديموقراطياً من مأزق وضع نفسه فيه. إلا أنّ التاريخ، والتصويت البريطاني السلبي على طلب ديفيد كاميرون شاهد، لن يغفرا لمن يكذب على الشعوب.
على فكرة، لا تزال هناك فردة أخرى من حذاء الزميل منتظر الزيدي تنتظر هدفها... من يعلم؟ قد تكون حدّدته أمس!

مراجع

http://www.haaretz.com/news/diplomacy-defense/.premium-1.542849
http://www.livetradingnews.com/un-official-syrian-rebels-used-sarin-nerve-gas-assads-army-6636.htm
http://www.reuters.com/article/2013/05/05/us-syria-crisis-un-idUSBRE94409Z20130505