فعلها الأجلاف أخيراً. نحو سنتين ونصف سنة، وأهالي معلولا، الوادعون فوق العادة، يخشون وصول «الوحوش» إليهم. تلك القرية النائية، على بعد 50 كيلومتراً من دمشق، المستريحة على كتف تل صخري، حل عليها ظلام «جبهة النصرة».
دخلوا معلولا المسيحية، أول من أمس، القرية الوحيدة في العالم، تقريباً، التي لا تزال تتكلم لغة المسيح (الآرامية - السريانية). بهذا اشتهرت عالمياً، بكنائسها وأديرتها الضاربة في عمق التاريخ، بدير القديسة تقلا «أولى الشهيدات في المسيحية». هذه العبارة مدوّنة على مدخل الدير، وإحدى الراهبات، بلباسها الأسود، تشرح للزائرين عن القديسة وتاريخ معلولا. ترى هل قرأ قتلة «النصرة» تلك العبارة؟ أين تلك الراهبة الآن؟ أترى ذاك الانتحاري، الذي فجّر نفسه في البلدة، قد وقعت عينه في عينها؟ قاطنو معلولا في الصيف يكون عددهم نحو 20 ألفاً، وفي الشتاء يتضاءل العدد ليصل إلى 2500 شخصاً، وكل هؤلاء، وسواهم من المحبين، يعيشون اليوم ذهول الموت.
قبل 15 شهراً جالت «الأخبار» في معلولا. لم يُنشر، آنذاك، أي شيء عن القرية. لا داعي إلى تفتيح العيون على السلام الرابض هناك، على الهدوء الحاد الذي يلف تلك الصخور الجميلة، على نسيم الهواء الذي لا صوت يعلو صوته. اليوم بات بالإمكان قول كل شيء. لقد وقع المحظور. ها قد دخل التكفيري لـ«فتح عاصمة الصليبيين» في سوريا. يقولونها بكل وقاحة، لكن، وبعيداً عن بعض العتب الممزوج بالدموع، لا يزال أهالي القرية على مواقفهم. هم «مع النظام علناً وبكل قوة».
عند مدخل القرية، يخبرك السائق الدمشقي، أن أهالي معلولا مشهورون بـ«زراعة العنب والتين والزيتون، ولديهم نبيذ عمره أكثر من 1000 سنة». في منتصف الجبل يقع قلب القرية، حيث المنازل في سفحه مبنية بترتيب أثري، فيرتفع صليب ضخم وإلى جانبه عبارة «نور العالم». قرب الصليب صورة للرئيس السوري بشار الأسد. يمكن رؤيتها من بعيد. تلك إشارة واضحة على الهوى السياسي للقرية.

مهد الأديرة
هنا دير «مار سركيس». تطالعك عند مدخله ضرورة التقيّد بـ«اللباس المحتشم». تطل ريتا، الفتاة العشرينية، لتخبر الزائرين عن المعلم. تقول: «هذه الكنيسة عمرها 1700 عام، هنا لدينا المذبح الوحيد في العالم المبني على الطريقة الوثنية، إذ كان هذا المكان معبداً وثنياً قبل المسيحية، وعمره الأصلي 2300 عام. في عيد الصليب، في 14 أيلول من كل عام، تمتلئ القرية بالسيّاح والزائرين، وتعم الاحتفالات. الشكر كبير للشرطة التي تساعدنا على التنظيم، لم تزعجنا الدولة يوماً في تأدية طقوسنا الدينية، وهذه المسألة يجب على العالم كله أن يعرفها». ريتا سورية، لكنها تعرف لبنان جيداً، ولديها أصدقاء في منطقة حاريصا. تتحدث بحسرة عن السياحة التي ضُربت في قريتها، إذ تضاءلت نسبتها، وهذا الكلام قبل أكثر من سنة، بنحو 70 في المئة. كان هذا قبل «النصرة». اليوم أصبحت السياحة صفراً ومن ذكريات الماضي الجميل. «النصرة» لا تُحب السياحة، وتكره المعالم الدينية الإسلامية، فكيف إذا كانت مسيحية؟ كيف تلقت ريتا، يا ترى، خبر دخول هؤلاء إلى القرية التي تختزن كل ذكرياتهم. هؤلاء الذين اجتاحوا وخرّبوا ونهبوا الكنائس هناك. ليس لدى هؤلاء «ناموس» لمخاطبتهم به.
تجلس سامية في كافيتريا جنب الدير. تتكلم بلهجة لبنانية واضحة. لقد عاشت في لبنان فترة من الزمن. لديها أقارب هناك. تتحدث عن المجموعات المسلحة الإرهابية، التي تنغل في سوريا، وهي «لا تمت إلى الأديان بصلة، الإسلام بريء منهم قبل المسيحية. بسبب هؤلاء أصبح الجميع هنا يعيش في خوف». تمسك الصليب بيدها وتقول: «العدرا ستحمينا». سامية أمس لم تكن «على السمع» لمعرفة رأيها في ما حصل. ستكون باكية بقلب محروق؟ من يناقش في هذا الآن! لقد حلّت الفاجعة.

أرض القديسين
تتجه نزولاً باتجاه وسط البلدة، إلى دير القديسة تقلا البطريركية، التي ارتبطت حكايتها بأصل معلولا وأصبحت أبرز معالمها. الكل يبتسم في وجهك. العاملون في جمعية «القديسة بربارة الخيرية» يلوّحون للزوار من المبنى المجاور للكنيسة. أبو جورج، صاحب الدكان الصغير، يُصرّ على استضافة الزائرين على العصير أو القهوة. ماذا فعل أبو جورج أول من أمس؟ دكانه في ساحة البلدة، تحديداً حيث احتشد عناصر «النصرة» والتقطوا صورهم، ولم يظهر سواهم في القرية. ومتى أحبت الحملان أن تظهر إلى جانب السباع؟ بدت القرية في الفيديو الذي نُشر كأنها قرية خاوية على عروشها. إعصار الظلام مرّ من هنا.
أين أصبح اليوم الصيدلي أشرف حولي؟ ذاك الشاب الذي يضع على مدخل صيدليته صورة الرئيس الأسد، الذي «نجح في كسر أحادية الولايات المتحدة على أرض سوريا». يقولها مزهواً. يُصر على شرب القهوة معه، عند مدخل «فج» معلولا، الذي يُعد معجزة القرية الطبيعية. طريق ضيقة بين جبلين، يمر فيها الماء البارد، مع أشكال فنية نحتها الدهر أولاً ثم أضاف إليها النُساك على مر القرون. يرشدنا أشرف إلى دير القديسة تقلا، ويبادر إلى الاتصال للتأكد من وجود «الأم بلاجا صياف». هي المسؤولة عن الدير. قبل الوداع قرر أن يرفع صوته، ليقول: «نحن لا نخاف من أحد، نطلب من الله فقط أن يخلصنا من المتعصبين الطائفيين. نحن مع الرئيس الأسد لأنه علماني ولا يحاسب الناس على أساس الدين، أنا أقرأ الإنجيل والقرآن، وأفهم القرآن أكثر من هؤلاء الذين يقتلون اليوم باسمه. هؤلاء الإرهابيون يتخفون وراء الدين الإسلامي لاثبات أي وجود لهم، وإلا فهم في الأصل ليس لديهم أي كيان إنساني مستقل». كان لافتاً مستوى الوعي، وربما الثقافة، بين أهالي معلولا عامة. يتحدثون في كل شيء، لكن بطيبة ظاهرة، بلهجة يتبدد معها أي شعور بالقلق لدى الزائر. سيشعر بالأمان حتى لو كان في زيارته الأولى لتلك الأرض الطيبة. ثمة لافتة في ساحة القرية، تشير إلى منزل «ملحم ومريم رحباني». هذه العائلة المألوف اسمها في لبنان. يبتسم أشرف ويقول: «ربما ظننتهم من لبنان، لا، هذه عائلة سورية. ربما هذا يدلك أكثر على أننا شعب واحد».
لا أصوات عند مدخل دير القديسة تقلا. عند أعلى الدرج راهبة تمشي وحدها، تدور حول نفسها، غارقة في صلواتها. تقطع خلوتها لتدلنا على صالون الانتظار. في الداخل صورة كبيرة للرئيس الأسد، إلى جانب صليب كبير وعدد من صور القديسين. لحظات وتطل الأم بلاجا. صليبها يتدلى من عنقها. تسألك أولاً عن الطريق إلى معلولا إن كانت آمنة: «ان شاء الله لم تتعرضوا لشيء على الطريق؟ سمعنا أخيراً أن ثمة حواجز تولد فجأة من قبل الإرهابيين».

يغارون من سوريا
لا تخفي الأم صياف وجود القلق في قريتها، لكنها، في المقابل، بدت حاسمة في خياراتها. تقول: «نحن متحدون مع الرئيس بشار الأسد، سياسياً ودينياً وحضارياً، وإن سألتموني من منطلق كوني مسيحية، فإني أقول إن النظام الحالي هو الأفضل لنا... صحيح كان هناك أخطاء من الدولة، لكن هل هذا يعني أن نحارب ونقتل وندمر البلد؟ نحن نتوجه إلى كل دول العالم، وخاصة أميركا وأوروبا وبعض العرب، أن لا يتدخلوا في شؤون سوريا لتغذية الانقسام، فإن السيد المسيح قال: كل مملكة تنقسم على ذاتها تخرب». ترد صياف على الهاتف، الذي تردها عبره الاتصالات بالاستمرار، لمتابعة شؤون البلدة. في قلبها الكثير من الأسى على ما حل ببلادها، ولا تخفى نقمتها على بعض العرب، الذين «يغارون من سوريا، من جمالها ومن حضارتها ومن انسجام مكوناتها، وهم يفتقرون إلى هذا التنوع... كانوا يأتون الينا للاصطياف والسياحة، وكانوا يمدحون بنا وبالنظام، فما الذي جعلهم يستيقظون اليوم ليقولوا إن لدينا ديكتاتورية! عجبي. أين ديمقراطياتهم هم؟ من سمح لهم بالتحدث باسم الشعب السوري كله؟ من قال لهم إن كل السوريين ضد الرئيس الأسد؟ هؤلاء ربما لا يدرون أن الخراب إذا عمّ سوريا فإنه سيشملهم أيضاً، وسيكون الخراب لكل العرب».
أصوات الأطفال الذين يلعبون في ساحة القرية، بمحاذاة الكنيسة، تصل إلى داخل الصالون. تطل الأم عليهم وتدعوهم إلى الهدوء... بكثير من الهدوء. لم تصرخ عليهم حتى. مر عجوز ثمانيني، يحمل رفشه على كتفه، وثيابه قد تلونت بالتراب. ألقى على الأم السلام. معلولا أرض السلام. كل ما فيها يوحي بالسلام. يعرف العجوز أن الزوار من لبنان، فيعاني في رفع صوته، ليقول: «ولك يا هلا، يا هلا بالأحباب».

اسمعي يا أوروبا
برأي صياف أن أميركا مسيطر عليها من قبل الإسرائيليين، هم الذين «يضعون القوانين بما يناسبهم عالمياً، والبيت الأبيض محكوم من قبل اليهود، بل يهيمنون على العالم أجمع». وتضيف، أما الأوروبيون، فـ«توجد غشاوة على أعينهم». الأم لا تريد الإساءة إليهم. تحملهم على المحمل الحسن. على منهاج المسيح، لكنها توضح: «على الأوروبيين أن يعلموا أن الارهاب هو الذي يقتّل ويفجّر في سوريا. ليس النظام وكفاهم تجنياً. نحن هنا منذ أن جاء المسيح إلى قريتنا، هنا أرض المسيحية والحب والتسامح قبل أن تصل إلى أوروبا».

القرية الأيقونية
تتحدث صياف عن معلولا، البلدة الأيقونية، التي «زارها السيد المسيح ومن هنا انطلقت المسيحية إلى العالم». لقد كسبت هذه البلد شهرتها من القديسة تقلا، التي هربت من أعداء المسيحية، وتوفيت ودفنت في البلدة عام 85 ميلادياً. تتحدث الأم بكثير من العاطفة عن بلدتها، وعن كل ما تمثله لكل مسيحي، بل «لكل مسلم ولكل إنسان حر يحب الحياة». في النصف الأول من القرن الأول الميلادي شهدت هذه الأرض «معمودية». تقول إن اسم البلدة يعني، باللغة الآرامية، المدخل أو المعبر. ربما هو «الفج» الذي استطاعت القديسة عبره، بحسب الرواية الموروثة، الهرب والوصول إلى مأمنها. «الفج» الذي يمتد بين الصخور لمئات الأمتار، وينتهي في آخر إلى حديقة خضراء، تزداد معه رهبة المكان وسكينته. تقول: «هنا اتصلت الأرض بالسماء». تقول الأسطورة، أو الرواية التاريخية، إنّ المسيح عندما أراد حماية القديسة تقلا، الفتاة الهاربة من حكم الموت الروماني، شق لها في الجبل «الفج» المذكور. استطاعت النجاة أخيراً. أهالي معلولا اليوم يتوجهون إلى القديسة تقلا، إلى المسيح، إلى السماء لحمايتهم. أهلها العُزّل من كل شيء، إلّا من الإيمان والطيبة التي تقفز من عيونهم، يعيشون على أمل حصول المعجزة من جديد.