رسمياً، لم يوضع الملف السوري بنداً على جدول أعمال قمة «مجموعة العشرين»، لكنه ملفٌ سيرخي بظله على كل اللقاء، حسب مصادر إعلامية مختلفة، فيما تتواصل التعبئة والتحريض لشنّ عدوان كبير على سوريا.
وقد صرّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي ترأس بلاده دورة «مجموعة العشرين» حالياً، بأن «القمة ستركز أساساً على الاقتصاد العالمي ومشاكله الراهنة، مثل تباطؤ النمو الاقتصادي والبطالة والفساد والتهرب الضريبي وما شابه، لكن بالنظر إلى الوضع الخطير في سوريا، وإلى أننا لا نستطيع الاتفاق على يجب القيام به لحل هذه المسألة المهمة بشدة، فإننا نستطيع على الأرجح أن نستغل فرصة لقاء زعماء الاقتصادات العشرين الأكبر في العالم، لقضاء بعض الوقت في مناقشة هذا الموضوع. لن نفرض ذلك طبعاً، إنما نستطيع أن نقترح الخروج عن جدول الأعمال المتفق عليه لبحث النزاع السوري».
إذن مناقشة الملف السوري قصة بحد ذاتها، وفي ضوء إلغاء لقاء كان يفترض أن يعقد بين الرئيسين الأميركي والروسي على هامش «مجموعة العشرين»، على خلفية منح روسيا اللجوء السياسي لضابط الاستخبارات الأميركية إدوارد سنودن، وتعرقل جهود عقد مؤتمر «جنيف 2» حول سوريا، وتشدّد حكومة الولايات المتحدة وحلف «الناتو» في مفردات الملف السوري، من الواضح أن من يريد أن يناقش الملف السوري هو روسيا ودول «بريكس»، ومن لا يريد مناقشته هو الغرب وحلفاؤه.
وليس الخروج عن جدول أعمال «مجموعة العشرين» مسألة محض إدارية، أو «نقطة نظام» فحسب، إنما يتعلق بالهدف الذي تأسست من أجله «مجموعة العشرين» عام 1999، كمجموعة متخصصة في الشأن الاقتصادي والمالي، على خلفية الأزمات المالية التي ضربت دول جنوب شرق آسيا في ربيع عام 1997، ثم روسيا والبرازيل عام 1999. وقد كانت القمة تلتئم في البداية على مستوى وزراء مالية الدول الأعضاء ومحافظي بنوكها المركزية فحسب.
وبعد تزايد أهمية مجموعة العشرين في الاقتصاد الدولي، ودخول الاقتصاد العالمي، الغربي خاصة، مرحلة الأزمة المالية مجدداً، وبصورة أعمق، بين عامي 2008 و2011، طرأ تحولان مهمان جداً على «مجموعة العشرين»، الأول هو انعقادها مرتين سنوياً، بدلاً من مرة واحدة، أما الثاني، فهو انعقادها على مستوى رؤساء الدول أو رؤساء الوزراء، إضافةً إلى وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية الذين يلتئمون للتهيئة لقمة الرؤساء، ولبحث التفاصيل التنفيذية للمقررات على الهامش.
وفي أيلول 2009 أعلن قادة «مجموعة الثماني»، التي كانت تضم أكبر اقتصادات غربية، ثم أضيفت إليها روسيا عام 1997، أن «مجموعة العشرين» ستحل محل «مجموعة الثماني» كأعلى مجلس اقتصادي عالمي، وقد عكس هذا التطور، في خضم تفاقم أزمة رأس المال المالي الدولي، أمرين مهمين جداً اقتصادياً وسياسياً، أولهما انسياب دول البريكس بالجملة، مثل الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، إلى الحلقة المركزية لصنع القرار الاقتصادي الدولي، تحت وطأة الأزمة، والاعتراف الغربي بالتالي بتحول ميزان القوى العالمي لغير مصلحة أوروبا الغربية وشمال أميركا واليابان. وثانيهما هو دخول عدد من الدول الآسيوية والأميركية اللاتينية إلى مجموعة العشرين، وهو ما يعكس انتقال مركز ثقل الاقتصاد العالمي تدريجياً شرقاً وجنوباً، مما يعزز الاتجاه نحو التعددية القطبية، بعيداً عن الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة، على ساحة الاقتصاد والسياسة الدوليين.
وقد دخلت الدول الأوروبية الغربية التي كانت تنتمي إلى «مجموعة الثماني»، مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا تلقائياً «مجموعة العشرين»، ثم تمثل الاتحاد الأوروبي في مقعد واحد، مما خلق مشكلة مع بعض الدول الأوروبية المتمتعة بعضوية الاتحاد الأوروبي، مثل إسبانيا وهولندا والنمسا والسويد وبلجيكا وبولندا، التي تسعى إلى الحصول على عضوية العشرين. كذلك تستثني «مجموعة العشرين» دولاً مهمة اقتصادياً مثل سويسرا، التي لا تنتمي إلى الاتحاد الأوروبي، أو النرويج، كما تستثني إيران، فيما تضم «مجموعة العشرين» تركيا وإندونيسيا، ولا تضم في صفوفها أي بلد أفريقي ما عدا جنوب أفريقيا، ولا أي دولة عربية ما عدا المملكة العربية السعودية. وتُدعى بعض الدول المستثناة إلى الحضور كمراقب أحياناً على سبيل رفع العتب.
بعض الدول المستثناة لديها اقتصادات أكبر حجماً من بعض الدول المنضوية في «مجموعة العشرين»، مثلاً الاقتصاد الإسباني أكبر من الأرجنتيني، والإيراني أكبر من جنوب الأفريقي، والبولندي أكبر من السعودي، رغم ذلك يمكن القول إنّ الانتقال من مجموعة الثماني إلى العشرين، أي من الغرب فحسب إلى الشرق والجنوب نسبياً، كان يعني أيضاً التحول من إدارة 40% من الناتج العالمي الإجمالي الحقيقي لمجموعة الثماني إلى أكثر من 80% من الناتج العالمي الإجمالي الحقيقي لمجموعة العشرين، وأكثر من ذلك من التجارة العالمية ومن النمو الاقتصادي العالمي، وثلثي عدد سكان الأرض. أي إن «مجموعة العشرين» بالرغم من استثناء ما يقارب عشر دول مهمة اقتصادياً، تمثل وحدها معظم الاقتصاد العالمي بالرغم من كونها عشرين فقط من أصل 193 دولة عضواً في الأمم المتحدة.
كسر أحادية القطبية
العبرة من هذا الكلام أن «مجموعة العشرين» تمثل عنواناً لكسر أحادية القطبية، ولصعود دول البريكس، بالرغم مما يشوبها من عيوب ونقائص، وأنها بالتالي حلبة صراع يحاول الغرب فيه أن يعزز سيطرته على الاقتصاد والسياسة العالميين، وخاصة بعد مرور عاصفة الأزمة المالية الدولية، وتحول القمة إلى سنوية، بدلاً من نصف سنوية، ابتداء من عام 2011. وهو جهد يتلازم على الأرض مع محاولة تطويق روسيا والصين بحزام إخواني وغير إخواني يمتد من الوطن العربي إلى آسيا الوسطى إلى إقليم جينجيانغ في الصين إلى جنوب شرق آسيا، فإذا لم يستطع السيطرة عليه، فعلى الأقل يتركه فريسة للحروب الأهلية والفتن والقلاقل والتمزق وانعدام الاستقرار، وروسيا تدرك، كما عبّر أكثر من محلل روسي، أن خسارة سوريا تعني إبقاءها خارج البحر المتوسط، ومن ثم الأسود، وأنها سوف تخسر لا القوقاز الجنوبي فحسب، بل القوقاز الشمالي أيضاً. بالرغم من هذا، لا تجد روسيا أو الصين في نفسيهما القدرة أو الاستعداد لخوض مواجهة مباشرة مع الغرب بشأن سوريا بعد. ولذلك تفضلان خوض مواجهاتهما ضمن إطار الأمم المتحدة أو «مجموعة العشرين» وما شابه، فيما العكس صحيح بالنسبة إلى الغرب. وقد خاضت دول البريكس جولات لإصلاح صندوق النقد الدولي لمصلحتها مثلاً في دورات سابقة لقمة العشرين. والولايات المتحدة ضاقت ذرعاً من تدهور موقعها الدولي في الأعوام الماضية، ولو اضطرها ذلك إلى تجاوز المؤسسات الدولية، وقوانينها، التي ازداد فيها وزن دول البريكس فيما كان يقل وزنها.
ونلاحظ من معاينة نموذجين لأجندة النقاش في هذه الدورة لقمة «مجموعة العشرين»، أولهما نموذج منشور على الموقع الروسي المخصص للقمة، والآخر غربي من صحيفة «ذي فايننشال تايمز» البريطانية، أن الشأن الاقتصادي يحتل وضعية مختلفة في الحالتين، فهو مشروع نمو في الحالة الأولى، من خلال تعزيز دور الدولة في تنظيم القطاع المالي والشركات المتعدية الحدود وتحسين نوعية الوظائف وزيادة الاستثمار، فيما تتحدث الأجندة الغربية عن الإصلاح الضريبي، بينما يتعلق بالشركات المتعدية الحدود، وآثار قرار الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) برفع معدلات الفائدة بالتدريج، وأن المرحلة المقبلة من النمو الاقتصادي ستحركها الولايات المتحدة وبريطانيا، بعد تباطؤ النمو في الصين والهند، وبحث قوانين روسية أدت إلى اعتقال معارضين سياسيين لبوتين وتقييد التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية، وتقييد الدعاية للمثلية الجنسية، فيما تريد أن تبقي سوريا بعيداً عن مائدة البحث.
المؤكد أن الملف السوري سوف يبحث بشكل أو بأخر، لكن هل سيبقى ميزان القوى داخل «مجموعة العشرين»، والخط البياني المتصاعد لدول البريكس، كما هو اليوم، عندما تنعقد قمة «مجموعة العشرين» في العام المقبل في أستراليا؟
لا غرو أن الإجابة عن هذا السؤال ستعتمد إلى حد كبير على ما سيجري في معركة سوريا.