فتح البريطانيون الباب أمام حملة التراجع. تحول الرأي العام فجأة عنصراً حاسماً في قرارات الحكام في الغرب. ثم، تطور الأمر بحثاً عن مخرج مباشر لإدارة البيت الابيض. لعبة الكونغرس لا تكفي. وعندما وضع باراك أوباما ورقة التصويت بأيدي النواب الاميركيين، كان يعطي الاشارة الى أنه مستعد لتسوية، ولكنه يريد الثمن. الصبي الأزعر يحتاج ليس فقط الى من يمسكه من قميصه، بل الى من يرشوه ليغادر المكان. تريد أميركا مكسباً مباشراً، يتيح لأوباما الخروج الى حلفائه العرب والغربيين المتحمسين للحرب، والقول لهم إنه نجح في تحصيل ثمن كبير في مقابل عدم القيام بالضربة العسكرية.
كان على الروس التحرك. فكان اقتراح حل يمنع الهزيمة المدوية عن الاميركيين، ولا يظهر سوريا في موقع المتنازل. وجاءت حيلة «تعطيل السلاح الكيميائي»، من خلال وضع اليد عليه، ما يتيح لأوباما القول إنه يضمن للمعارضين المسلحين أن النظام لن يستخدم السلاح الفتاك ضدهم. وهو أصلاً استغل حالة الهرج لإعلان ما هو معروف، لناحية إمداد المسلحين بما يساعدهم، حسب اعتقاده، على إسقاط النظام.
المبادرة الروسية فتحت الباب أمام تسوية مؤقتة، أو بالتحديد ما يوصف عادة بـ«ربط النزاع» في حلقته العالمية. لكنّ هناك نقاشاً طويلاً سوف يسبق أي تفاهم عملي على المبادرة الروسية. التفاصيل معقدة للغاية. وما سرّبه إعلام العدو ليل أمس حول المبادرة كان عبارة عن «القراءة الاسرائيلية للمبادرة»، وهي القراءة التي أرسلت على عجل الى الجانب الاميركي لأجل وضع آليات تنفيذ لها. وأساس المطالب الاسرائيلية يناسب بقوة المطالب الاميركية. وإذا ما دخلت الاطراف في نقاش حول اتفاق متكامل في شأن هذه الملف، ووفق تصورات تعيدنا الى أيام لجان التفتيش الدولية في العراق وليبيا وإيران، فذلك يعني أننا أمام «استراحة أميركية» قبل العودة الى إنضاج ظروف سياسية وعسكرية ودبلوماسية وشعبية تسمح بشن العدوان من جديد، ولو بطريقة مختلفة.
نظرياً، يمكن الأميركيين القول إن لائحة مطالبهم المفتوحة (على الطريقة الاسرائيلية) تسمح بتحقيق نتائج الضربة من دون إطلاق رصاصة واحدة، ما يعني أن الاميركيين والغربيين سوف يحاولون الحصول من خلال المبادرة الروسية على ما فشلوا في تحقيقه سابقاً، أو على ما كانوا يأملون بتحقيقه من خلال الضربة العسكرية. ومجرد النظر الى الامور بهذه الطريقة، يعني أنه لن يمر وقت طويل قبل أن نعود الى الاجواء المتوترة، وعمليات التهويل والتحشيد تمهيداً لعدوان أوسع على سوريا. وسوف يستغل الغرب عدم التوصل الى اتفاق شامل للمبادرة الروسية لأجل الاعداد لضربة كيميائية جديدة، واتهام النظام مجدداً بالمسؤولية عنها.
ماذا في جعبة الطرف الآخر، وماذا عن تقييمه لهذه الجولة، وما الذي يستعد له خلال المرحلة المقبلة؟
لا يحتاج المحور الذي يدعم سوريا الى من يشرح له حالة الوهن التي تصيب الجانب الاميركي وتمنعه من التصرف بحرية كان يمتكلها قبل عشر سنوات. فهذا المحور يعرف مباشرة وتماماً معنى الهزيمة الاميركية الكاملة في العراق، ومعنى الهزيمة القائمة الآن في أفغانستان، ومعنى التراجع الفعلي للنفوذ الاميركي في الشرق الاوسط ومناطق كثيرة من العالم. كذلك يعرف المحور الآخر أن تحالفاً إقليمياً دولياً قام على أنقاض الهزيمة الاميركية، ويجمع أطرافاً قوية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وهو تحالف يشهد نمواً حقيقياً يوماً بعد يوم.
الأمر الآخر أن المحور المقابل يخوض معركة بأذرع عديدة. وإذا كان الروس يمثلون اليوم الذراع الدبلوماسية المربكة للأميركيين، فإن إيران تمثل مركز الثقل الذي يقدر على ادّعاء القدرة على خوض مواجهة شاملة مع واشنطن، في سوريا وعلى ضفافها وفي مناطق بعيدة عنها. وتقدر إيران على إيذاء ليس الاميركيين فحسب، بل جميع حلفائهم في المنطقة والإقليم.
وفي المحور نفسه، هناك من نجح خلال أسبوعين فقط في إعداد وضعية عملانية تتيح خوض مواجهة شاملة تمتد لشهور طويلة إن لم يكن لأكثر، وهي وضعية فرضت تغيير معادلات على الارض في سوريا وفي جوارها، وأتاحت ما لم يكن متاحاً في زمن سابق، ما يسمح بالرد على أي عدوان من دون الخضوع لسقف العدوان ومن دون الخضوع لحسابات المعتدي لجهة تحديد رقعة المواجهة ونوعيتها وحدودها.