غزة - في مثل هذا اليوم قبل عشرين عاماً، تشابكت يدا ياسر عرفات مع يدي إسحاق رابين في البيت الأبيض بواشنطن، احتفاءً بولادة اتفاقية إعلان المبادئ أوسلو. لم تكن أوسلو استكمالاً لمشروع تحرّر وطني دشّنه عرفات في ستينات القرن الماضي، ولم تأتِ لتُعلن أنّها «ثورة حتى النصر»، بل جاءت لتُجهز على الثورة، وتُلغي مفهوم النصر من قاموس المنظمة ويحلّ بدلاً عنه مصطلح «الهزيمة الدائمة».
هزيمةٌ انطلق عنوانها من «سلطة ذاتية انتقالية» لا تفرض قوتها إلا على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. فالقدس المحتلة والداخل الفلسطيني خارج نطاق التغطية. في ذلك الوقت، كل ما كان في دائرة تفكير المنظمة لا يتجاوز ضمان التعايش السلمي والتسوية العادلة والشاملة، فما عاد للبندقية مكانٌ، وما عاد لحملها متسعٌ من الوقت، فكلّ الزمن لبناء دولة ما قبل إنجاز التحرر.
أقيمت المؤسسات وشُكّلت قوة شرطية فلسطينية تصبو لحماية الأمن والنظام الداخلي في أراضي 67، فيما وهبت أوسلو العدو الإسرائيلي الحق الكامل في الدفاع عن النفس والوقوف بوجه أي محاولات لزعزعة الأمن والاستقرار، دون أن يبدي الطرف الفلسطيني أدنى اعتراض على ذلك، بل أيّده ورسّخه عبر تحويل نفسه إلى أداة يستغلها العدوّ لنزع سلاح المقاومة من المناطق التي يحكم السيطرة عليها.
عشرون عاماً مضت كانت كفيلة بخلع منظمة التحرير ثوب الثورة الفلسطينية، وارتداء ثوب التنسيق الأمني. عشرون عاماً انصرمت، وقضايا الحلّ الدائم كالقدس واللاجئين والحدود والمياه والأسرى والترتيبات الأمنية لا تزال معلّقة، لا يقترب المفاوض الفلسطيني منها ولو سنتيمتراً واحداً. عشرون عاماً انقضت، والسرطان الاستيطاني يتفشى بصورة جنونيّة في جسد الضفة الغربية والقدس المحتلة دون أن تجري إماتته.
يقول المحلل السياسي، عدنان أبو عامر، لـ«الأخبار» إن «العدو الإسرائيلي نجح في تحويل عملية التفاوض إلى عملية شراء وقت سياسي لتحقيق مكاسب مهمة له، من أهمها التوسّع الاستيطاني وبناء جدار الفصل العنصري وإسقاط السيطرة الفلسطينية عن 80 في المئة من الأراضي».
عشرون عاماً ودّعها الفلسطينيون، وهم لا يعرفون سوى أزقة المخيمات في أرضهم ولبنان والأردن وسوريا عنواناً ومأوى لهم؛ فقضية اللاجئين على حالها منذ أن خطفت نكبة 1948 ونكسة حزيران 1967 قراهم وبلداتهم منهم، كما أن قرار الأمم المتحدة 194 القاضي بعودة اللاجئين إلى ديارهم الأصلية وتعويضهم مادياً لم يخرج إلى إطار التنفيذ، فلم يعدُ حتى اللحظة سوى حبرٍ جفّت حروفه على الورق. رحلت عشرون عاماً، والمفاوض الفلسطيني يفاوض بذات الطريقة وبذات الأسلوب دون أن يتعّظ ويستخلص الدروس والعبر. وقع في الماضي بأخطاء لا تعدّ ولا تحصى، فيما وصل سقف طموحه في الحاضر إلى إنشاء مطار في الضفة، والتنقيب عن الغاز الطبيعي قبالة سواحل غزة، وافتتاح مشاريع حيوية سياحية في المناطق المصنفة «ج»، كما تسيطر على تفكيره آليات الحصول على ضمانات من العدو الإسرائيلي لزيادة تصاريح العمال الفلسطينيين. ويبيّن أبو عامر أن خسارة الطرف الفلسطيني الدائمة تكمن في ضعف المفاوض الفلسطيني وثبات طاقم التفاوض منذ عشرين عاماً، فيما بدّل الاحتلال سبعة أطقم تفاوض حتى اللحظة، ودرس كيفية انتزاع مكاسبه السياسية بنجاح على حساب خصمه، الذي لم يفلح إلا بتقديم التنازلات. ورجّح عدم تحرك عجلة المفاوضات الحالية، نظراً إلى الافتقار إلى الراعي الأميركي الضاغط كبوش الأب بعد حرب الخليج، مؤكداً في الوقت ذاته أن منظمة التحرير كانت تمتلك خياراً آخر غير أوسلو، حيث كان بإمكانها المضي في درب الانتفاضة الأولى وفرض شروطها على العدو الإسرائيلي.
عشرون عاماً مضت كانت كفيلة بإطفاء نيران توق الشعب الفلسطيني للتحرّر من الاحتلال، وتحويل جلّ نظره إلى لقمة عيشه وسد قوت يومه؛ فسلطتا أوسلو في الضفة وغزة تعيقان درب الاقتراب من صفد وعكا ويافا وحيفا. صحيحٌ أن أوسلو حققت عودة القيادة الفلسطينية إلى أراضيها بصحبة 300 ألف عائلة، وبنت نظاماً فلسطينياً إدارياً خاصاً، وأفرزت انتخابات رئاسية وتشريعية، إلا أنها طعنت القضية بظهرها. فالأرض التي قاتلت المنظمة تاريخياً من أجلها باتت إسرائيلية خالصة، فيما بات الفلسطيني دخيلاً غريباً عليها. ويؤكد أبو عامر أن منظمة التحرير سلقت اتفاقاً سياسياً على نار سريعة، ونجحت في طيّ صفحة المقاومة، بعدما أنشأ الطرف الإسرائيلي وهماً كبيراً لها عنوانه «السلطة الفلسطينية» التي تتصارع عليها حالياً حركتا «فتح» و«حماس» .
عشرون عاماً ذهبت إلى غير رجعة، وأذهبت معها هوية القدس الكنعانية والإسلامية والمسيحية. بالمحصلة، أوسلو، التي اتخذها المفاوض الفلسطيني ملهاة يجرّب حظه عبرها، لم تكن سوى تراجيديا عاش الشعب الفلسطيني فصولها بما فيه الكفاية، حتى بات متأقلماً معها ومسايراً لها.
سنوات طويلة لم يلعب فيها الفلسطيني إلا دور المتفرّج من بعيد، حتى قرر في الأعوام الأخيرة الخروج من عباءة ذلك الدور، ليرفع شعار «الشعب يريد إسقاط أوسلو». لم تبادر أي حركة على المستوى الرسمي من المناداة مجدداً بإسقاط أوسلو سوى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، مؤكدةً أنها ستبقى مع بقية قوى الشعب الحية والجادة، مهما كلفها الثمن، مستمرًة في الحملة الشعبية لإسقاط أوسلو ونتائجه المدمرة على قضية الشعب الفلسطيني.
يبدو حتى اللحظة، أن التحركات الشعبية على الأرض، الداعية إلى إسقاط «أوسلو» خجولةٌ بعض الشيء، ولم تصل إلى المستوى المنشود، لذا فضّل بعض الشباب الوطني إطلاق «اليوم الإلكتروني ضد المفاوضات» اليوم، تعبيراً عن سخطهم الشديد على أوسلو وتداعياتها، للوقوف على أرض صلبة بعد ذلك، حينما يحين وقت النزول الفعلي إلى الشوارع للتمرّد على سلطة أوسلو. وجاء في صفحتهم على «الفيسبوك»: «اليوم، وبعد مرور 20 عاماً على هذا الاتفاق، ومع عودة السلطة الفلسطينية إلى المفاوضات، نحتفل معكم ، لكن ليس حفلاً للفرح .. ولا حفلاً للبهجة، بل هو حفل نعيد فيها الذاكرة والوعي للشعب الفلسطيني، ماذا جلب له هذا الاتفاق؟» وأضاف القائمون: «حفلنا اليوم هو حفلٌ نريد منه أن نعلن وفاة، لا حياة جديدة ..غردوا معنا عبر وسم (هاش) #عيد_ميلاد_أوسلو، وقصّوا للناس أكثر عن هذا الاتفاق».
وأكد الناشط أحمد البيقاوي، أحد القائمين على الحملة، لـ«الأخبار» أن عشرات الصفحات الفلسطينية والمبادرات الشبابية على مواقع التواصل الاجتماعي، أعلنت مشاركتها وانضمامها إلى الحملة الرافضة للمفاوضات.


يمكنكم متابعة عروبة عثمان عبر تويتر | OroubaAyyoubOth@