مروان عبد العال *وحدك يا أميرة البلاد أودعتك دقّات صدري منذ أن اجتاحتني الغربة من الماء الى الماء. أنا الذي لاحقتني صفة الغريب. وعندما وجدت في ثوبك العروبي هويتي وغفوت مطمئناً عند بابك الجنوبي، دخلت مع القوم بيت «أبي سفيان». ألا يأمن من يدخل بيت سادة القوم؟ هناك يرقد الشقيق الأكبر لكل المخيمات مطمئناً بسلام، يذكّرنا بأن للشتات عاصمة أيضاً تقول: هنا اليرموك، رغم شتات يقارع التشتت، كل شارع فيه يهتف بأنه في حضن الشام ينعم بلياقة الضيافة وبكرامة الحياة اليومية ويتقن كيف يظل فلذة كبد فلسطين بلا منازع. شوارعه مرايا لنا طالما نظرنا فيها كأننا نعبر قرى الجليل اسماً اسماً ونجوب مدنها ونتعلم أنها صورة فلسطين التي نعلّقها بأعناقنا كقلادة ذهبية ونرتّل كلماتها كل صباح لنحفظها عن ظهر قلب. مخيم ما فارقت صور الشهداء جدران ساحاته. كأنها تنشد مع الشاعر الكرمي «يا فلسطين لا أحلى ولا أغلى ولا أطهر كلما حاربت من أجلك أحببتك أكثر».
أنت الشاهد كيف يختطف المخيم على باب المدينة؟ لنر، من يقوم بـ«تحرير» المخيمات من أهلها؟ ويظل كل مخيم قتيلاً، يحمل جثته وآهاته ويجوب ما تبقى له من عمر في هذه الدّنيا الواسعة؟ هكذا يجري اللاجئ والمُخيّم على مدار نصف قرن! ينسج ثوب النكبة خرقة بالية ولكن، بشكل خيام جديدة حيكت هذه المرة من خيوط الهويات المهترئة، يوم باعت راياتها لطواغيت المال.
جرأة الشوق أن تجتاح فيروز بجحافل صوتها المخملي المجوقل هدوء صباح غير متوقع في الميدان وساحة المرجة قبل أن يستيقظ بائع السوس ويقرقع بأكوابه الزجاجية. تعثر هناك على «أبو حرب» المقاتل القديم الضائع منذ أن ضاع المخيم، نازعاً قفل النّزوح عن حقيبة سفر، يحاول أن يطارد الكلمات القديمة التي تعوّد تردادها. صار لدى «الكابتن هيجاوي» هلوسات جديدة منذ أن أضاع إحداثيات مدفعيته وسرقته اتجاهات الريح من خرائط الحروب التي وضعها خلف ظهره. ظل في المخيم تحت الرصاص أشهراً، قد يقتله جاهل بجهله، جاهل لن يعرف أن هذا العجوز الذي فقد نصف ذاكرته، كان من أكفأ الرجال قتالاً، هو الآن يكتب أشياء غير مفهومة، ومنذ عشر سنوات لا يأكل إلا بعض كسرات الخبز مع الحليب. لا أحد يعرف الحكمة التي يقصدها في تقليد المهاتما غاندي، وجدته في مكتب المزرعة، تشرح أرقامه تعاويذ الاستباحة والبحث عن شيء لا تعرفه لأنّه ليس فيك.
لا تعرف من يغلّ كلماتك حرجاً، وأنت تقترب من مدينة موغلة في الحب الثقيل والأشياء غير القابلة للتصديق، ولكنها تحدث. وفي حرب الياقات الباذخة من أجل موت نحيل، كل شيء صار قابلاً للتصديق. هل يعقل؟ إن الأبنية التي تشبه أبراج الحمام صارت تمتطي الضحية فيها كل الطرق؟ تروى على مسامع الزائر يوميات قتل يوميّ بشع، وطريق يُعبّد بجثث قتلى منزوعي العناوين، ممسوحي الصّور؟ رغم ذلك، ألحّت لياقة الزّيارة بواجب عِيَادةِ الأمكنة المكابرة. مع إلحاحها تذكّرتُ ذات وجعٍ، يوم خذلتني مناديل النسوة على أبواب المخيم. لماذا يتكرر مخيمي نهر البارد في الأمكنة غير المتوقعة مرة أخرى؟ لماذا نعبر النهر مرتين؟ من كتب السيناريو الأول؟ لطالما أبقتني الدموع طفلاً خائباً لا يعرف طريق الوصول. كأنّي أتوسّل الوجوه في اللقاء الباهت، ولا أعثر، رغم اجتهادي في التوسّل، عليها في خرائب الروح. تبدّلت نظرات المدينة، وتربّصت ابتسامة حذرة على شفاهٍ مفعمة بالمرارة. قزّمت أسئلة تشاهقت عمراً وحلماً في الرؤوس. يوم هتفت في وجهي امرأة مصدومة على حاجز تفتيش: «قبل أن تعيدوا الوطن أعيدوا لنا كرامتنا ...».
هكذا يلحّ فضول السياسيّ: كيف تكون زيارة بدون المخيم؟ قد يتقدم المغامر ولو اشتعلت في بدنهِ حرائق، ويصرّ لهف الروائي على سرد مزنّرٍ بورد الحدائق. وفي وحشة الليلة اليتيمة، يمشي خلف آخر الساهرين مقتفياً أثر الحمام. كان الحمام ينام هنا، يحلق على مآذن الجامع الأموي، ومرة وجدته يصطف كطابور عسكري على عنق حصان «صلاح الدين الأيوبي».
كان الطريق قصيراً جداً، لكنّهُ لم يتمكّن من تجاوزه بسرعة اللّهفة الّتي حرقت قدميه. إنه جبل قاسيون، شاهدٌ ضربته الخيانة بالإثم مرة وبالهرم أخيراً. شاهدت جبلاً مكللاً بياسمين الحرية المطلقة، ينهض من العتمة ويرتدي إطلالة الشمس. زيّ فدائي يبشّر بصياح جديد لديكِ الصّباح. يردّدُ «أنا باق ولن يزحزحني الموت».
خلفي الأشرعة تميل الى حيث تشتهي الأحلام. تركتُ بعضاً من المستحيل على ظلال قلبي يوم أنشد لك محمود درويش «يا أيّها المستحيل يسمّونك الشام. افتح جرحي لتبتدئ الشمس. ما اسمي؟ دمشق».
يا شآم، أنت وحدك، الأميرة، تعلو باسمك الهامات والإلهام والهمم.
* كاتب فلسطيني