... وفي اليوم الثالث كان الاتفاق المفاجأة: تفاهم الروس والأميركيون على آلية لنزع السلاح الكيميائي وفق صيغة حملت في ثناياها بنوداً صادمة، من مثل حق تفتيش أي موقع في سوريا، وتهديد بقرار دولي تحت الفصل السابع إذا أخلّت دمشق بأي من ملزمات هذا الاتفاق. صيغة متوازنة، تظهر من حال الإرباك في إسرائيل، حيث عُدّ الاتفاق مقبولاً في مجمله لكن «العبرة في التنفيذ». في الأصل، نزع السلاح الكيميائي السوري مطلب تاريخي إسرائيلي، باعتباره السلاح الموازن للترسانة النووية التي تمتلكها تل أبيب. وبناءً عليه فإن ثغور الإسرائيليين كان لا بد أن تكون باسمة، لولا حمل الاتفاق في أصله أيضاً بعدين فهمتهما القيادة العبرية جيداً: الأول، أنه أقر ضمناً ببقاء نظام الرئيس بشار الأسد، بغض النظر عما صدر على لسان المسؤولين الأميركيين. وثانياً، أنه يعطي الأميركيين فرصة استغلاله وتوظيفه في خيار دبلوماسي في وجه إيران، مع ما يتضمنه ذلك من اتجاه نحو تسوية شاملة سقفها الأدنى الاعتراف بالجمهورية الإسلامية قوة نووية، ومع ما يعنيه ذلك من تهديد وجودي بالنسبة إلى إسرائيل. واقع عززه الرئيس باراك أوباما بإعلانه عن اتصالات أميركية إيرانية شبه مباشرة على مستوى الرئاستين، وأعطى زيارة جون كيري إلى الدولة العبرية مضمونها الحقيقي: تسويق اتفاق جنيف وطمأنة القيادة الإسرائيلية حول ما يمكن أن تراه من سلبيات فيه، وفي الوقت نفسه إبلاغها انفتاح الأفق نحو طهران.
لكن الحساب الإقليمي ـــ الدولي قد لا يتطابق مع الحساب الميداني الداخلي في سوريا، حيث يتوقع البعض تسعير الاقتتال الداخلي، من قبل المعارضة، وتصعيد العمليات العسكرية التي يُعدّ لها النظام، وذلك على خلفية اجتماعات استخبارية جرت في تركيا والأردن على مدى الأيام الثلاثة الماضية شملت أيضا الاستخبارات السعودية وأثيرت فيها قائمة المطالب التقليدية للمعارضة المسلحة السورية حول تزويدها بأسلحة نوعية.
ويفترض، حسبما هو معلن، أن يعقد وزراء خارجية فرنسا لوران فابيوس وبريطانيا وليام هيث والولايات المتحدة جون كيري اجتماعا في باريس، يفترض أن ينضم اليه وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو، الذي وجه إليه الدعوة نظيره الأميركي، كما يفترض أن يلتقي الوزراء الثلاثة الرئيس فرانسوا هولاند، الذي توقع أن «يجري التصويت على قرار مجلس الأمن بشأن سوريا في نهاية الأسبوع الجاري»، مشيراً الى أن «الاتفاق حول السلاح الكيميائي السوري مرحلة مهمة، لكنه ليس الحل الأخير».
وكان أوباما قد أشاد، في مقابلة تلفزيونية بثّت أمس، بما قام به نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وتحمله مسؤولية دفع الرئيس بشار الأسد إلى تفكيك أسلحته الكيميائية. ورفض أوباما ما قاله بوتين من أن مقاتلي المعارضة السورية مسؤولون عن الهجوم الكيميائي، الذي وقع في 21 آب. ودافع أوباما عن طريقة تعامله مع الأزمة السورية قائلا إن «الخطوات التي اتخذها دفعت الأسد إلى الاعتراف بامتلاكه أسلحة كيميائية، ودفعت حليفه الرئيسي روسيا إلى الضغط على سوريا للتخلي عن تلك الأسلحة». وتابع «إنها ليست الحرب الباردة. ليس هناك منافسة بين الولايات المتحدة وروسيا»، موضحاً أن «العلاقات بين البلدين كان يحكمها دائما مبدأ الرئيس الأسبق رونالد ريغن: ثقة (لكن) مع اليقظة». وأكد أن الهدف «هو التأكد من عدم وقوع أسلحة هي الأسوأ إما في أيدي نظام مجرم، أو في أيدي بعض افراد المعارضة المناهضين للولايات المتحدة كما للأسد».
وجرى تسجيل المقابلة مع قناة «ايه بي سي» قبل اعلان الاتفاق الأميركي ــ الروسي. وأكد أوباما، في بيان له بعد الاتفاق، أنه إذا لم تلتزم دمشق ببنوده، فإن «الولايات المتحدة تبقى مستعدة للتحرك».
وينصّ الاتفاق الذي جرى التوصل إليه بعد محادثات استمرت ثلاثة أيام في جنيف بين كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف، على أن تسلم دمشق «قائمة وافية» بمخزوناته من الأسلحة الكيميائية خلال أسبوع، بهدف ازالتها بحلول النصف الأول من عام 2014. ويلحظ الاتفاق امكان اصدار قرار دولي تحت الفصل السابع، يجيز استخدام القوة إذا لم يفِ النظام السوري بالتزاماته. ويتعيّن على سوريا ضمان حق تفتيش أي من المواقع وكل المواقع في سوريا على الفور ودون قيود.
وقال لافروف، في مؤتمر صحافي مشترك مع كيري، إن «النجاح في تنفيذ هذا الاتفاق سيكون له معنى ليس فقط من زاوية الهدف المشترك لإزالة ترسانة الأسلحة الكيميائية، لكن أيضاً لتجنب السيناريو العسكري الذي سيكون كارثياً لهذه المنطقة وللعلاقات الدولية ككل».
وأقرّ كيري بأنه ليس مضموناً إحراز المزيد من النجاح، وقال «الطريق شاق لتنفيذ هذا الإطار، الذي يتطلب يقظة ودعم المجتمع الدولي والمحاسبة الكاملة لنظام الأسد». وأضاف «ما من تقليص للخيارات»، مشيراً إلى أنّ أوباما يحتفظ بحق استخدام القوة العسكرية في سوريا بموافقة أو دون موافقة من الكونغرس أو هيئة دولية.
وقال متحدث باسم الوزارة الدفاع «إنه ما من تغيير في مواقع القوات». وأضاف «التهديد الجاد باستخدام القوة العسكرية كان السبب الرئيسي في إحراز تقدم دبلوماسي»، لكن لافروف قال إن الاتفاق «لم يذكر شيئاً عن استخدام القوة، ولا شيء بشأن أي عقوبات تلقائية».
ومن المرجح أن تبدأ جولة أخرى حول من المسؤول عن هجوم 21 آب بالأسلحة الكيميائية في الأيام المقبلة، بعد أن يسلم مفتشو الأمم المتحدة تقريرهم.
وسيجتمع كيري ولافروف بعد أسبوعين مع مندوب سوريا لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري، عندما تبدأ اجتماعات الجمعية العامة لبحث إمكان المضي قدما في عقد مؤتمر دولي للسلام لبحث إمكان إنهاء الحرب السورية.
وقال كيري أمس إن اتفاق الأسلحة الكيميائية قد يكون «أول خطوة ملموسة» نحو تسوية نهائية، فيما قال لافروف إنه يأمل أن تحضر جميع أطراف الصراع مؤتمراً في تشرين الأول دون شروط مسبقة.
(الأخبار)