ريف دمشق | تعاني مدينة دمشق، وبعض ضواحيها الآمنة، من تخمة سكانية لم يشهد لها تاريخ المدينة من مثيل. فقد تضاعف عدد قاطني بعض الأحياء المجاورة للمناطق المتوترة في الريف إلى مرات عدة، مثل أحياء مساكن برزة والتجارة والعباسيين، شرقي مدينة دمشق، التي تدفق إليها نازحو الغوطة الشرقية من برزة والقابون ودوما وحرستا.
وأما مدينة جرمانا التابعة إدارياً إلى ريف دمشق فقد أصبحت خزاناً بشرياً هائلاً، إذ يقارب عدد قاطنيها اليوم 800 ألف نسمة، علماً أن عدد سكانها قبل الأزمة كان حوالي الـ500 ألف، وذلك بالرغم من التفجيرات والقذائف التي تنهال بشكل شبه يومي على المدينة، وبالرغم من جغرافيا الأبنية في المدينة، التي لا تساعد على استقبال هذا الكم الهائل من السكان. أما نازحو الغوطة الغربية، داريا والمعضمية، فقد لجأوا إلى الريف المجاور في صحنايا وجديدة عرطوز. ولا تزال بلدتا كناكر وسعسع، على طريق القنيطرة غربي مدينة دمشق، مقصداً لكثير من نازحي الغوطتين.
تستطيع أن تكتشف بسهولة تجمعات النازحين وسط مدينة دمشق، فحيثما تصادف مجموعات كبيرة من الأطفال تلهو في إحدى حارات المدينة يوجد نازحون. ففي «سوق ساروجا» على سبيل المثال، ما بين فندق «الماجد» ومركز الانشطة العمّالية، الذي يسميه الناس هناك «النادي العمّالي»، تقطن عشرات العوائل المهجّرة من ريف دمشق الشرقي، يقضي عددٌ كبير منهم جلّ وقته في الحارة «في شمّ الهوا» كما يقول حسام عطايا، (42 عاماً) من جوبر. ويضيف: «غالباً ما تشترك عدة عوائل في غرفة واحدة أو في أرض ديار واحدة، ما يجعل البقاء في البيت أمراً مستحيلاً، فما بالك بمن يعيش في قبو». وعند سؤاله عن ظروف حياتهم، يجيب: «تصلنا معونات هي عبارة عن سلة غذائية شهرية، وأغطية وفرشات، عن طريق الهلال الأحمر وبعض الجمعيات الخيرية، وهي لا تكفي وحدها على أية حال، لكن مساعدات أهالي الحي الأصليين تسد بعض الحاجات الملحّة». وهذه الأخيرة تعدّ ميزة قد لا يتمتع بها النازحون المقيمون في المدارس.
يعيش معظم هؤلاء على أمل العودة سريعاً إلى بيوتهم، فقسوة العيش التي يعانون منها بحاجة إلى مثل هذا الأمل، ذلك أن هذا الوضع «المؤقت»، حسب تعبير الحاجّة خيرية (59 عاماً) قد دمّر الروابط الاجتماعية التقليدية بينهم، فازدادت نسب الطلاق بشكل غير مسبوق، إضافة إلى هروب الشبان والشابات من العائلة، وتفضيل السكن مع مجموعات من الشباب. وتضيف الحاجّة خيرية: «الأولاد لم يعودوا يسمعون كلام الكبار...». في حين أن فراس الدرخباني (18 عاماً، من برزة) له وجهة نظر أخرى في الموضوع، ويقول: «لم أحتمل العيش في بيت واحد يحوي ثلاثة أُسر، فكان من الأفضل أن أنتقل للسكن مع أصدقائي، وهم خمسة شبّان، كي أتمكّن من الدراسة، وآخذ راحتي، لم يتفهم والدي الأمر في البداية، لكنهم استوعبوا الموضوع لاحقاً عندما أصبح كل فرد في البيت عبئاً حقيقياً على الآخرين».
أسوأ مفاجأة قد تواجه النازحين هي خبر تدمير المنزل أو إصابته، فهذا يعني بالنسبة لهم استمرار كابوس النزوح المطبق على تفاصيل حياتهم. يقول جمال من القابون، (الأربعيني، الأب لأربعة أولاد): «اتصل بي شاب أعرفه من الجيش الحر من هاتف بيتنا في القابون، في حارة البعلة، ليعلمني بأن الجيش الحر قد اتخذ من منزلي مقراً لعملياته، حاولت في البداية إقناعه بالعدول عن الخطوة، وعندما رفض وصل الأمر إلى تبادل الشتائم بيننا»، وعند سؤاله عن دلالة مثل هذا الاتصال قال لنا: «هذا الأمر يعني شيئاً واحداً، هو أن البيت سيتعرض حتماً للدمار، وأن عناصر الجيش الحر هؤلاء يريدون أن يخلّوا أنفسهم من المسؤولية، وينسبوها إلى الطرف المقابل...».
يتابع النازحون أخبار مناطقهم ساعة بساعة على أمل فتح الطرق إليها، ولو مؤقتاً، كي يتسنّى لهم جلب بعض المقتنيات الخفيفة من بيوتهم، إذ إن معظمهم خرج من بيته في لحظة مفاجِئة لم تتح لهم نقل بعض الأشياء إلى منافيهم الجديدة. مثل حال أبو علي المنشد، وهو شاميّ الأصل، لكنه كان يقيم في عين ترما في الغوطة الشرقية، هرباً من غلاء العقارات في دمشق، واليوم هو نازح في حي الزهور المجاور لحي التضامن، والذي يعج بالنازحين. بدوره، يقول أبو علي: «ذهبت إلى عين ترما قبل العيد، عندما تأكدت من إمكانية الدخول، كي أجلب الثياب لأطفالي الثلاثة ولزوجتي، لكني علقت هناك أسبوعاً كاملاً، وقضيت العيد بعين ترما، إذ تجددت الاشتباكات وأغلق الطريق». ويتابع حديثه: «الحواجز بنوعيها، على جانبي الخط الفاصل بين سيطرة الدولة وسيطرة الجيش الحر ولواء الإسلام، تدقق كثيراً في طبيعة المواد المنقولة، إذ يمنع نقل الأغذية والأدوية، ولا يسمح إلا بنقل الثياب أو العفش الخفيف».
مئات العوائل النازحة، الفقيرة أساساً، بعد أن جرّبت حظها من النزوح إلى المدارس والحدائق العامة والشوارع، وجدت الحل لاحقاً باللجوء إلى الأبنية غير المكسوة، «على العظم» كما يسميها السوريون، يلاحظ هذا الأمر بوضوح في صحنايا وأشرفية صحنايا، وفي جرمانا أيضاً حيث تُعرف عائلة سكنت في محل تجاري على العظم، بالقرب من ساحة الخضر، يعمل الأب وأولاده نهاراً في تعبئة الغاز، وفي الليل تنام العائلة في المحل ذاته.
هذه مأساة يعاني منها مئات الألوف من سكان ريف دمشق، ممن أجبرهم العنف على اللجوء إلى العاصمة ذات الجغرافيا الضيقة والمزدحمة أساساً. لم تتعدد الخيارات أمام هؤلاء، وخصوصاً الفقراء منهم، فلم يبق لهم إلا خيار الفرار المستمر والمضني من وجه الموت الطائش.