سنكتب لنحب الأمل القادم من سراب الأغنيات العاطفية عن وطن ضيعته السياسة، وسنكتب لنحلم أكثر أن المدن السعيدة هي مدننا حين نعود إليها، بكامل الفرح والحسرة على مخيمات ستبقى وحيدة، لا يؤنس وحدتها عبث الأطفال ولا نكايات النساء وكيدهن ولا ضحك الرجال بالصوت المرتفع ولا حتى شاب سكير يترنح بين طرفي زقاق لا يتسع لاثنين معاً.
سنكتب بعد حين عن حنيننا لمخيم من مخيماتنا الكثيرة في لبنان وسوريا والأردن، أو ربما عن نقمتنا، ولست متأكداً، فلربما كتبنا عن رغبتنا بالعودة إليها.
هناك في المخيم، كان اللاجئ هو الفلسطيني، ولكن حين عودتنا، هل نكون نحن الفلسطينيين الذين كنا لاجئين وفلسطينيين؟ السؤال لا يحيرني فحسب، لكنه يدفعني الى سؤال أكبر، وهو مدننا وقرانا التي هُجّر أهلنا منها قبل نحو سبعة عقود، لدينا ذاكرتهم عنها، نعم ولكننا حين نعود إليها، لن تكون كما في مخيلتنا وذاكرة الأجداد، بل ستكون أشبه بمدن وأرياف أوروبا. قد يكون المشهد مخيفاً في اللحظات الأولى، وأخشى إن انقضى موسم الحنين والدهشة، أن أخاف فلسطين، التي لا تشبهني وهي بهذه الحال المتطور والمتقدم، من معظم النواحي العمرانية وطرق الزراعة والري.
حدثتني صديقة من الضفة الغربية عن زيارتها يافا، حدثتني أنها مشت قرب الجدران، وشمتها، استنشقتها، لتجد رائحتنا فيها، وارتكنت زاوية، بكت... تابعت، عن سؤال راودها هناك: أمن المعقول أن هذا المكان لنا، وليس فيه ما يدل علينا، لا الناس الكثيرون من الإسرائيليين وأعلامهم وطرق حياتهم في المدينة؟
أخبرتني أنها شعرت بالحجارة تشكو لها، كأنها غريب وجد صديقاً في غربته، وأخيراً تمنت لو أن يافا كانت منديلاً، لتدسه في جيبها، تأخذه معها.
لماذا هذا الكلام؟ ولم هذه الكتابة عن يافا وباقي المدن في الداخل عن عودتنا؟ بعد شهرين تقريباً، نفتتح المناسبة تلو المناسبة لإحياء ذكرى نكبتنا، ذكرى هزيمتنا، وانكسارنا المتوارث.
نقلت كلام صديقتي، لأنه حقيقي، وكلامي في البداية، أسئلة وحيرة حقيقية، ولكن الحقيقة أيضاً موجودة في واقع آخر لم نعرفه، وربما ليس لدى أحدنا الجرأة للحديث عنه.
مع كل ما يجري حولنا، وفي أرضنا، أعتقد أننا بعد سنوات ربما سنضطر لإعادة تعريف الفلسطيني، بدلاً من السؤال التاريخي: "من هو اليهودي"؟
سنكتب لأجل الحياة والأمل ولأجل الحب، هي أدوات الحلم، حلمنا بعودة ما إلى الوطن، وهي أدوات تنقذنا عادة من استعار الواقع في وجهنا.
سنكتب لتصبح فلسطين أحلى في المخيلة، وليحلم بها طفل سيولد بعد قليل في المخيم، ستصل صرخة حياته إلى أذن عجوز إسرائيلي مات قبل قليل. سنكتب لأنه ليس في وسعنا أكثر من ذلك.