لا شيء يبدو في فلسطين كما يبدو من الخارج. يستطيع الناظر من الخارج أن يرى أشياء كثيرة، شعبا مقاوم، شعبا تحت الإحتلال، شعبا يختار موته كما حياته. كلها أمورٌ ترى من الخارج، لكنها ليست الصورة كاملةً. لن تكون أبداً الصورة كاملة إذا ما شاهدتها بهذا الشكل. الأمر لا يكتمل إلا إذا ما سمعت القصّة كما هي، بعيداً عن أي تزييف للحقيقة أو حتى مجاملةٍ تريدها لأنّها تناسب خيالك وعقلك. يأتي مثلاً أنك تريد أن ترى الشهداء مناضلين في كل الأوقات، تريدهم، أن تظل خياراتهم صائبة كل الوقت، تريد أن تعزلهم عن بشريتهم، عن كونهم "حقيقيين" وبشراً عاديين اختاروا المر، لأنه ليس هناك أحلى منه .. لحظتها!
خذوا عندكم الشهيد أحمد يوسف عامر، ذا الستة عشر عاماً، أحمد وللمفارقة المدهشة لم يحتجْ إلى أن يخبرنا نحن المشاهدين كثيراً، بل ترك رسالةً عند أهله لتوديعهم، الرسالة ذات الخط المبعثر، تظهر شخصاً مختلفاً عن فكرة "الشهيد" المعتادة.
يطلب أحمد من ذويه أن يذكروا سيئاته لا محاسنه أمام زوارهم، ذلك أنه يود أن يسامحوه عليها. تبدو الفكرة خلابة إلى حدٍ كبير إذا ما استمررت في قراءة الرسالة الوداعية. هو يكمل "طلباته" من ذويه أن يدفعوا ما عليه من ديونٍ لأصدقائه، ديونٌ قد تبدو "مضحكةً/ مبكيةً" في آنٍ واحد: 2 شيكل، و6 شيكل. لا يضيّع أحمد الوقت في كلامٍ كثير، يدخل مباشرةً في الفكرة، هو كان يعرف أنها في النهاية ديون، هذه الديون كان يعتقد أنّها "كبيرة" لأن الحسابات المالية والمادية الكبرى لم تدخل بعد في حساباته كابن ستة عشر من عاما.
هل كان يعرف أحمد أن خياره المرّ هذا نتيجته الشهادة؟ بالتأكيد. هل كان سيحيد عن الفكرة؟ لا يبدو ذلك. فمن يكتب رسالة يأخذ فيها وقته ليعد أسماء الأماكن والأشخاص الذين يدين لهم بالمال، ما يعني أنّه أخذ وقته "كثيراً" بالتفكير قبل عمليته. أحمد ليس واحداً، أحمد "كثيرٌ" من أشخاصٍ نفذوا عملياتهم ضد الصهاينة، و"كثيرٌ" لم يفعلوا بعد!
ماذا عن بشار محمد مصالحة؟ بشار هو منفذ عملية الطعن في مدينة يافا. قبل سنوات قليلةٍ خلت كان الصهاينة يتباهون بأنَّ يافا (وفيها العاصمة الصهيونية المشؤومة تل أبيب) هي مدينة التعايش العربي-الصهيوني، مدينةٌ ليس فيها "ضربة كف". لم يخرج منها إلا بعض المجرمين الجنائيين، أي بمنطقٍ آخر: صفر مشاكل سياسية. كان باحثون كثر من جامعات عبرية (بار ايلان والجامعة العبرية مثالاً) يعدّونها مثالاً على تطبيق الـ"Melting Pot" الصهيوني الرسمي، وكيف يمكن للتعايش الحدوث تمهيداً لفناء الجذر العربي داخل "جذر الدولة الصهيونية". كل هذا ضرب به عرض الحائط. ضرب به بشار عرض الحائط. فأن تمتشق سكيناً وتغرزه في صهاينة محتلين، هذا ليس اختياراً عادياً، هو اختيارٌ مر بالتأكيد، اختيارٌ تعرف أنك لن تعود أبداً بعده، هل فكّر بشار في الأمر كثيراً؟ ممكن، لكنه في النهاية اختار أن يكسر القيد، وأن يجعل من نفسه "طريقاً" للمقاومين. على "اليوتيوب" تجد فيديو لبشار، يجالس طفلة صغيرة، هل يبدو بشار مختلفاً عن فكرة "الشهيد" الهلامية الخيالية؟ بالتأكيد. هو شخصٌ عادي، عاديٌ جدا، يمارس حياةً عادية، يحلم أحلاماً عادية. تأتي الشهادة فعلاً "مراً"، منهكاً، مستهلكاً، لكن في الوقت نفسه خيار. يؤخذ هذا الخيار برغم مرارته حلواً لأنه لا خيار "ناجعا" غيره؛ وقديماً قيل: آخر الدواء عند العرب "الكي".
في الختام، الشهداء في بلادنا هم "نحن" أي اللفظة التي تعود لأناس هذه البلاد العاديين، الذين تراهم في شوارعها، ليس الشهداء كائناتٍ أرقى أو أسمى أو تطير في الفضاء ثم تحط في بلادنا ثم تعود لترحل. إن رفع الشهداء إلى مرتبة القداسة أمرٌ جميل، لكنه يعزلهم عن الناس، يجعلهم غير قابلين للحدوث: "طفرات". أما الحقيقة، فهي تختلف كثيراً، فخلف كل شهيدٍ، شهداء.

فيديو "عائلي" للشهيد بشار مصالحة: