تنظيم القاعدة أضحى الشغل الشاغل للباحثين ومراكز القرار الغربية والعربية. «هجرة» عناصره نحو سوريا، وتمركزهم على حدود فلسطين المحتلة، جعلا تل أبيب تتخوّف من الطاعون المقبل بعد الكوليرا (الحكم الحالي) الذي تعرفه. وهذا ما دفع بطاقم من الباحثين الإسرائيليين الذين يتميّزون بماضٍ استخباري، ويترأسهم الدكتور رؤوبين أرليخ، إلى أن يُمضوا 10 أشهر في جهد بحثي عن «القاعدة» في سوريا، شدّدوا في ختامه على أن هذا التنظيم، بفرعه السوري، نجح في تأسيس «دولة داخل الدولة» السورية، كما هو أسلوبه في العالم.
وهي حقيقة ليست بالمفاجأة من حيث المبدأ، لكن ما فاجأهم على نحو كبير هو «السرعة والحجم». وبحسب تعبير أرليخ: ما استغرق عشر سنوات في أفغانستان، حققته القاعدة في سوريا خلال سنة ونيف.
ولفت البحث، الذي تحولت نتائجه إلى وثيقة ينشرها للمرة الأولى مركز تراث الاستخبارات العبري بـ150 صفحة، إلى أنّ رجال القاعدة ليسوا مجرد متعصبين مع أحزمة ناسفة يبحثون عن برج لتفجيره، بل هم تنظيم يسيطر على منشآت رئيسية، من آبار نفط ومناطق مأهولة، وتوجه مدفوع بـ«ايديولوجية وحشية ترفض الحلول الوسط، وتمثل خطراً على السلام العالمي».
ولجهة قلق الأميركيين من واقع انتشار القاعدة في سوريا وتمركزها، رأى أرليخ أن لديهم، بعد تفجير البرجين، الكثير من الأسباب للقلق، لأن سيطرتهم على سوريا تعني أن الولايات المتحدة فقدت كل قدرة لها على النفوذ فيها، فضلاً عن قدرتها على تفعيل كوابحها هناك. والأمر نفسه ينطبق على الروس، الذين «يخشون من تصدير أجندتهم إلى بلادهم أو إلى البلاد المجاورة، وخاصة أن امكانية سيطرة الجهاديين على الشيشان تقلق موسكو كثيراً». وذكّر ارليخ بمسار الأفغنة، الذي يعني اكتساب نشطاء لخبرات حربية في جانب من العالم، وتنفيذها في الجانب الآخر. ووصف رجال القاعدة بأنّهم «يحملون وباءً ينتشر على مرحلتين، الأولى سرية، التي يقوض فيها الجسد بدون أن يعرف المريض ما الذي يحدث، وفي المرحلة العلنية يبدأ بالظهور، لكن في حينه يكون بكامل قوته».
ومع إنهاء الطاقم عمله البحثي، رسم ارليخ، الذي يترأس مركز المعلومات للاستخبارات والإرهاب (التابع لمركز تراث الاستخبارات) خارطة للأخطار الكامنة على العالم، من تنظيم القاعدة، بفرعه السوري. ورأى أنّ «الخطر الأكبر الذي شخّصناه هو سيطرة القاعدة على الدولة وعلى مخازن السلاح الكيميائي»، واصفاً إياه بأنه «ليس خطراً كامناً، بل يمكن أن تراه بالعين».
ولفت، أيضاً، إلى أنّه ليس صدفة أن الجميع تجند من أجل دفع الاقتراح الروسي لتفكيك الأسلحة الكيميائية في سوريا مقابل إلغاء الهجوم الأميركي.
وردّ أرليخ على مقولة أنّ المتمردين المتطرفين لن يسيطروا على سوريا غداً، بالقول إنهم «لن يرحلوا أيضاً غداً من سوريا، بل وجدوا هناك من أجل أن يبقوا، ومن أجل أن يستمروا ويكتسبوا النفوذ. وسيبقون هناك من أجل تشجيع الفوضى»، لافتاً إلى أنّ هذه هي «ركيزتهم المثالية للتمكن من التطور، والمحافظة على سوريا كمركز فوضى ينزف في الشرق الأوسط، لا هو حي ولا هو ميت». واستشهد ارليخ أيضاً، بما أدلى به نائب رئيس «سي. آي. إي»، لصحيفة «وول ستريت جورنال»، الذي وصف ما يجري في سوريا بأنه تهديد نوعي يواجه الولايات المتحدة. وأضاف إنّ سوريا «يمكن أن تتحول إلى ملجأ آمن لرجال الجهاد العالمي، الذي سيحلّ بدلاً من الملجأ الباكستاني»، وأنه بذلك يمثل «التهديد الأكبر».
بين الكوليرا والطاعون
لكن في ما يتعلق بالسؤال عن، أين تكمن المصلحة الإسرائيلية في مواجهة عدوين وتهديدين يمثلهما الرئيس السوري بشار الأسد وتنظيم القاعدة، وما إن كان الأفضل للدولة العبرية بقاء الأسد في السلطة؟ شدّد أرليخ على أنّ «الجواب مركب»، لكونه اختياراً «بين الكوليرا والطاعون»، إذ إنّ نظام الأسد يمثل «منصة لإيران وحزب الله، وجزءاً من محور الشر، الذي يدير سياسة طاغية في سوريا». وأضاف إنّ البيئة التي يتميز بها الشرق الأوسط، لا تسمح بالاختيار بين «الأخيار والأشرار، بل بين السيّئ والأسوأ». ورفض، في هذا السياق، فرضية أنّ يساعد الأميركيون الرئيس الأسد، مشيراً إلى أنّها «غير ذي صلة اطلاقاً»، لكن في هذه الحالة، أيضاً، «الجواب مركب»، إذ إنّ «الأميركيين يقومون بمعالجة موضعية استناداً إلى قاعدة تحييد الأخطار، مثل تفكيك الأسلحة الكيميائية، لكن بدون توجيه ضربة قاتلة للنظام أو تصفية قدرات المتمردين».
تصدير الإرهاب من سوريا
أما الخطر الثاني، الذي شخصه الباحثون، وعبّر عنه أرليخ، فكان «أكثر محلية»، ويتمثل في إقامة جهادستان للقاعدة على الحدود الشمالية، مستنداً في ذلك إلى ما أعلنه زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري على نحو واضح في شباط 2012، عندما لفت إلى أنّ سوريا ستتحول مباشرة مع اسقاط الأسد إلى قاعدة تصدير للمقاتلين، الذين سيكون هدفهم إقامة دولة تدافع عن الأراضي الاسلامية، وفي السياق تحرير الجولان واستمرار الجهاد إلى حين رفع رايات النصر فوق القدس المحتلة.
ورأى ارليخ أن المعنى العملي لتكوّن قاعدة لتنظيم القاعدة على الحدود الشمالية، هو تصدير نشاطات ارهابية منسقة، بشكل أو بآخر، مع تنظيمات القاعدة في سيناء، وغزة ولبنان وحتى داخل إسرائيل.
وخلص الطاقم البحثي إلى نتيجة أساسية تتمثل في أنّه «سواء بقي الأسد في السلطة أو حتى لو نجح الجيش الحر في اسقاط النظام الحالي، فإن الحقيقة التي نؤكد عليها أن أياً منهما لن يتمكن من قمع هذه التنظيمات التابعة للقاعدة». وحول ما ينبغي لإسرائيل القيام به على الحدود الشمالية، رأى ارليخ، بصفته رجلاً أمضى كل خدمته العسكرية في الاستخبارات، ومتخصصاً في الشأن اللبناني، أنّ «على إسرائيل مواصلة سياسة عدم البروز وعدم تصدر الواجهة، كما تفعل في الواقع حتى الآن»، لكن في مقابل ذلك، من الجدير التذكير، بأنه بعدما كشف السفير الإسرائيلي في واشنطن مايكل أورن قبل أيام أن إسرائيل تفضل تنظيم القاعدة على الأسد، أصدر مكتب رئيس الحكومة بياناً تنصل فيه من موقف أورن، رغم أنه أقر ضمناً بأن موقفه يعبر عن حقيقة السياسة الإسرائيلية.
وعلى المستوى الدولي، شدّد أرليخ على ضرورة التعاون بين دول العالم، في ما يتعلق بمتابعة نشطاء «القاعدة» وجمع المعلومات عنهم وتحليلها في المرحلة المقبلة. ولفت إلى أنّ العلاقات الدولية ليست مسألة مزاج أو طيبة قلب، بل إنها مبنية على المصالح. وفي هذه المسألة تتداخل مصالح معظم دول العالم الغربي، وجزء كبير من الدول العربية، وعلى نحو خاص تلك التي تدور في الفلك الغربي، مشدداً على أنّه فقط من خلال تعاون حقيقي، ومتابعة متواصلة، يمكن اقتلاع هذه التنظيمات وتجفيف مصادر نموها.