تشير الساعة الى الثانية فجراً. الجميع من حولي كانوا سكارى او «مزهزهين». وحده كان واعياً لما يجري من حوله. تأمل وجوهنا بعينيه الحزينتين. مر المتسول بقربنا حاملاً علبة بيضاء، تعكس لون شعره وشيبته. اقترب منّي ببطء. وقف، ونظر الي والى اصدقائي كمن يجرب حظه. يدنو منك اكثر. تنظر اليه متأملاً تفاصيل وجهه. شكله يوحي بأنه لم يكن متسولاً عادياً. ثيابه مرتبة. صوته هادئ. تستطيع ان تشم رائحته...الجميلة. يدنو منك اكثر. ينظر الى عينيك مباشرة وبلهجة لبنانية مصطنعة يتحدث اليك. وبما ان اذنك حساسة للهجة الفلسطينية تستطيع ان «تقفرو». تسأله «يا خال من وين حضرتك»؟ يتردد في اجابته. يصمت قليلاً ثم يقول: «فلسطيني من مخيم شاتيلا». تبتسم بقهر. تمد يدك الى جيبك تعطيه ما فيه الخير. تبقى عيناك متعلقتين به. تتأمله بعدما اغرقك بالدعاء. يكمل سيره ببطء في الشارع الخالي. تلمحه ينظر الى سطله ليرى كم وضعت فيه. ثم يختفي في الظلام.
قد يكون المشهد عادياً، والحادثة عادية. قد يقول احدهم إنك «حساس زيادة عن اللزوم»، او «ما بدها هلقد»، لكن هذا ما حدث. عمر الرجل يشير الى انه ربما عاش النكبة والتغريبة الفلسطينية، وقد يكون شارك في الكفاح المسلح في لبنان. ملامح وجهه القاسية والحنونة في الوقت نفسه، تشير الى انه ربما فقد أفراداً من عائلته خلال حصار بيروت او في مجزرة صبرا وشاتيلا. ربما الذي طلب المال مني لديه «جنات ع مد النظر» في فلسطين. ربما في هذه اللحظة بالذات هناك مستوطن يتنعم ببيت المتسول، او ربما هذا المستوطن بالذات جالس الان على الشرفة يتأمل ارض صديقنا في شاتيلا يفكر في زرعها او استثمارها، بينما صاحب الارض الاصلي يتجول في بيروت طلباً للمال. ينظر اليوم الى اللاجئين الفلسطينيين على انهم فقراء، وهو صحيح، لكن يجب ان نعرف ان اللاجئين هنا لديهم اراض وممتلكات في فلسطين التي هجّروا منها. ويوماً ما سيعودون الى هناك. وهي الايام دائرة.


زيارة إلى الحدود

جلست بالقرب من بوابة فاطمة على الحدود مباشرة مع فلسطين المحتلة. حملت حجراً بين يدي. قلبته بين اصابعي. رميته في الهواء ليسقط بين قدمي. وقفت وتأملت شمال فلسطين. رأيت اشجار الليمون المزروعة بترتيب. لم يكن يفصلني عن حبيبتي سوى شريط وضعه سايكس وبيكو. من زرع الشريط الصدئ لم يكن يعرف انه سيحرمني تحقيق حلمي بزيارة موطني، او ربما هذا ما اراده بالفعل عندما قام بذلك. وانت تتأمل الحدود يلفح هواء الجنوب وجهك. النسمة التي داعبت اناملها وجهي أكملت طريقها الى بلدي. تمنيت لحظة لو كنت تلك النسمة حينها سأدخل الى فلسطين دون اي اذن من احد. ارض الجنوب التي اقف عليها طهرها الله ورجاله من نجس الاحتلال. دماء الشهداء التي لوّنت تراب جنوب غسلت رجس الاحتلال. ونحن لا نزال ندفع الدماء كي نحرر ارضنا من العدو. خلال تلك الزيارة التي لن تتكرر كثيراً نتيجة القوانين اللبنانية تحاول حفظ التفاصيل. وقفت وتأملت بيوت المستوطنين. اشعة الشمس زادت جمال الوان القرميد البرتقالي. هذه الارض لنا وستعود يوماً ما الينا. في تلك اللحظة استذكر والدي. لم يخبرني أن بيوتنا كانت بهذا الشكل. اخبرني أن دارنا كانت كبيرة. سكنها اناس بسطاء. جدي كان يعمل في مصلحة سكك الحديد. كان منزل العائلة بالقرب من الاوتوستراد الذي يوصل الى بيروت. جاء الصهاينة الى دارنا احتلوها. تركت عائلتي فلسطين وتوجهت الى جنوب لبنان، الى قرية جدتي ….قانا. في قلعة عكا كافح والدي ضد الاسرائيليين. سقطت القلعة هربوا باتجاه الشمال. كانوا على امل ان تصل القوات العربية لكنها لم تفعل. تركوا فلسطين ليصبحوا لاجئين.
بالقرب من الحدود تمر هذه الروايات سريعاً. كأنك تعيش ما اخبرك اياه والدك مجددا. يجتاح الغضب عينيك. تشعر بالمظلومية والحقد تجاه عدوك. الحجر لا يزال في يدي. اشد عليه اكثر. للحظات تتمنى لو يمر اسرائيلي لتضربه به، لكن حتى هذه الامنية لا يحققها لك عدوك. ترمي الحجر ارضاً عسى ان تجده المرة المقبلة عندما تتحرر فلسطين.

طقوس الدفن

ودعت الكثير من الاصدقاء. شاركت في دفنهم وفي عزائهم. اغلب اصدقائي دفن معهم غصن زيتون، وتراب من فلسطين. بالنسبة إلي، كل شيء اصبح جاهزاً. تراب من غزة ومن القدس، وغصن الزيتون الخاص بي من ساحة الاقصى. لم يبقَ الا الرحيل على امل الدفن في فلسطين.