دمشق - يصعد محمد إحدى الحافلات الحكومية مع والدته المريضة. الوجهة إلى القصر الجمهوري في العاصمة السورية، للقاء زوجة الرئيس أسماء الأسد، ضمن برنامج لقائها الأسبوعي مع عائلات الشهداء. الكثير من المطالب لدى العائلة التي فقدت معيلها، فالشاب يحتاج إلى وظيفة، والأحوال المادية ليست على ما يُرام.
لقاء السيدة الأولى، بالنسبة إلى البسطاء من هذه العائلات، بمثابة العثور على مصباح علاء الدين السحري، الذي يلبّي كل الطلبات ويحلّ كل العقد والمشكلات، بينما اللقاء، حقيقةً، ليس إلا مساعدة تقدّمها الدولة لعائلة من قدّم كلّ شيء دون مقابل. محمد أحد المئات الذين قابلوا زوجة الرئيس، أو الرئيس نفسه في بعض الحالات. لا يمكن توقّع مطالب عوائل الشهداء، حيث تزخر المخيلة الشعبية بالروايات عمّن يجلسون مع الرئيس من هذه الأُسَر، ولا طلبات لديهم إلا أبناؤهم الذين سقطوا على مذبح الوطن. المخيلة الشعبية هذه تعمل وفق منطق اليمامة بنت كُليب، بعد مقتل والدها من أجل ناقة البسوس، عندما قالت: «أريد أبي حيّاً». تلك تبقى روايات تنفّس عن العامّة من الناس، إلا أن الحال في سوريا تمضي وفق منطق حسابي، يحاول التعويض قدر المستطاع عمّن خسر بيتاً أو ابناً أو مستقبلاً. بينما من يُقتَل في بلاد الموت، هو الخاسر الأكبر الذي لا تعويض ينفعه سوى القليل من تراب الأرض، يلفّه مع نكباته التي عاشها في الوطن، وذكرياته الأخيرة المصحوبة بالظلم والقسوة والوحشيّة.
الجميع في سوريا، كما في كلّ مكان، يعتبر أن فقيده هو الأغلى والأهمّ. والفقيد ربما كان زوجاً هو عصب البيت ومعيله، وربّما كان ابناً كلّف أهله أعصاباً ومالاً وعُمراً. إنما في الواقع، فالفقيد أو الشهيد لا يعني أحداً سوى عائلته التي خرج منها، ولن تتوقف حياة أحد على مضيّه، بما فيهم حياة أفراد عائلته نفسها. حكايات البطولة يتناقلها الناس من المعارضة والموالاة عن شهدائهم، فذاك «خرج طالباً الحرية، رادّاً بطش النظام عن شعبه»، وذاك الآخر «دفع دمه، غير آبه، فداءً لوحدة البلاد، وصوناً لها من اعتداء الغرباء». غير أن النتيجة تؤكّد أن هُنالك سوريين طوتهم صفحة تاريخ المرحلة من دون أثر فردي يُذكر، بل إن ضعف التوثيق سيجعل منهم نسياً منسياً.
تروي عائلة العميد الشهيد محمود درويش، قائد «اللواء 38» في درعا، الكثير عن ملحمة استشهاد الضابط السوري، ومدى تصميمه وثباته وشجاعته حتى اللحظة الأخيرة، مع 25 من عناصره. الرجل الذي أفرغ اللواء من ذخيرته وصواريخه، وقام بشحنها نحو دمشق، تحسّباً للحظة الموت المنتظرة، واجه الموت بشجاعة واستبسال. 16 يوماً من الحصار، استشهد على أثرها العميد درويش إثر رصاصة في الرأس داخل مكتبه، إلا أن حقد القتَلة جعلهم يقطعون رأسه بعد موته، ويحملونه على عصا طويلة، ويجوبون فيه أرجاء منطقة صيدا في درعا. الضابط أصبح أحد أبطال المرحلة، وصار قاتلوه رمزاً على وحشية الحقبة الصعبة من تاريخ البلاد. تسجيل مصوّر عبر موقع «يوتيوب» يوثّق التمثيل في رأس العميد المقطوع، ينسف أي فكرة للتعاطف مع القتَلة وما يقاتلون من أجله. وهذا ما جعل حسام محمود درويش، ابن الشهيد، يتواصل مع الصحافية الأميركية تيفاني ماديسون من صحيفة «ذي واشنطن تايمز»، إبّان فترة التهديدات الأميركية الأخيرة للدولة السورية. حسام وزملاؤه من طلاب كلية الطب في جامعة تشرين في اللاذقية، أخذوا على عاتقهم مدّ الصحافية بما تحتاج إليه من معلومات لدعم تقريرها الذي نُشر لاحقاً، وجاء مُنصفاً للعميد درويش وللقضية السورية في وجه التهديدات الأميركية. لين محمود درويش، ابنة الشهيد، تروي لـ«الأخبار» أن شقيقتها طلبت مقابلة الرئيس السوري بشار الأسد أو زوجته. لدى الأسرة ما تقوله للرئيس، إذ إن الأخطاء الواردة في تقرير استشهاد درويش يبخس الشهيد حقه، في ظل ما أشاعه عنه القتلة عن كونه سكران في آخر لحظات حياته. لدى الأسرة ما تطلبه من الرئيس أيضاً، على اعتبار أن أبناء الشهيد من المتفوقين في جامعاتهم، ويستحقون الأفضل بعدما رحل والدهم صوناً لشرفه العسكري، تاركاً مسؤوليتهم لمن تعلّقت في عنقه مسؤولية البلاد ومواطنيها.
... وللمعارض قصته
وفي السياق ذاته، يروي أصدقاء الناشط المعارض غياث مطر، الذي ذهبت حنجرته ضحية «السلمية» في بداية أحداث داريا، أن مطر ذهب شهيداً في سبيل السلام والتغيير. مقتل مطر جاء صدمة لمن يعرفه، إذ كان من أصحاب فكرة توزيع الورود على حواجز الجيش والقوى الأمنية في المنطقة. جثة مطر الملقاة أرضاً وقد اقتلعت منها الحنجرة، تركت الكثير من الأسئلة مطبقة على رؤوس عائلته ورفاقه. وإذ يحمد الله من يعرفه «أنه نال الشهادة، وقضى في سبيل قضية يؤمن بها»، يتساءل رفاق له: ما الذي كسبه مطر أو قضيته في ضوء الجنون المسلّح القائم داخل البلاد! مثل مطر كمثل متظاهرين آخرين وجدوا أنفسهم، لاحقاً، يحملون السلاح ويقاتلون ضد الدولة. ولتبقى الحرية ووحدة البلاد مجرّد شعارات يموت السوريون على مذبحها ببساطة مستفزّة، فيما يغالب عوائل الشهداء في سبيل البقاء وإظهار أبنائهم بأبهى صورة.
«أرادوا إهانتنا بقطع رأسه وتصويره»، تقول لين محمود درويش، وتتابع حديثها لـ«الأخبار» بالقول: «نحنُ فخورون بشهادته، بعد عمر قضاه متفانياً في أداء واجبه الوطني». الفتاة التي لطالما مارست هوايتها في الموسيقى والغناء، والتي تضجّ حيوية وحياةً، غيّرت صورتها الشخصية على «فايسبوك»، لتضع مكانها صورة لوالدها بلباسه العسكري، وقد امتلأت التعليقات تحت الصورة بدعوات الرحمة والإشادة ببطولة الراحل. أكثر من يعبر عن المظهر الحقيقي للشهداء هم المقاتلون المرابضون على الجبهات، ممن يحلو للسوريين تسميتهم الشهداء الأحياء. يقول سامر، أحد مقاتلي الجيش السوري في ريف دمشق: «بيقولوا خلص عمرو، بس الأصح يقولوا انسرق عمرو. مرة لما خذلوه وما بعتولوا تعزيزات ... ومرة لما خانوه شركاء الوطن ... ومرة لما مات وقالوا خلص عمرو». سامر لن يلتقي أحداً ليشرح مشاكله ويطلب ما يحتاج إليه. هو لم يطلب مواعيد مع أي من المسؤولين لتحسين ظروف عمله وحياته، بل ينتظر كغيره من رفاقه الشهداء أن يلاقي الموت، كنهاية حتمية، وغير وردية لمسيرة حياته الخطرة. يمشي الشاب بأنفة وكبرياء، غير عابئ بأي تفصيل من تفاصيل الحياة الصغيرة، وكأن الشهادة الآتية تشغله عن يومياته البسيطة. يلتقط رفاقه له الصور. يلتفت نحو الكاميرا بنظرات ثابتة وجدّية ... كأنّ الكاميرا تلتقط في عينيه تصميم كل شهداء سوريا الذين سبقوه.




«نسائم سوريا»: إذاعة (لا) تحاكي حلب مباشرة

صباح كل يوم، يحيّي وائل عادل من خلف ميكروفونه مستمعي إذاعة «نسائم سوريا»، التي يرغب في أن تكون صلة وصل بين الأحياء الخاضعة لسيطرة الدولة والمعارضين لها في حلب.
ويعمد وائل وزملائه إلى تسجيل برامجهم، قبل أن يقوم ببثها زملاؤهم الموجودون في الأراضي التركية.
وعلى رغم تجهيزاتها شبه البدائية، تبثّ «نسائم سوريا» التي تأسست مطلع عام 2013 على مدار الساعة، معتمدة على جهود ستة موظفين في سوريا ومثلهم في تركيا. حالياً، تقوم الإذاعة ببث ثلاثة برامج أسبوعية، أحدها عن الحياة اليومية في المدينة، والثاني عن الصحة، ويستضيف طبيباً.
ويوضح باهر، أحد العاملين في الإذاعة، أنّه «بسبب انقطاع خطوط الاتصال الهاتفي في حلب، لم يعد في إمكان أحد (من المستعمين) طرح الاسئلة، لذا نطلب مسبقاً من الناس في الشوارع طرح أسئلتهم، ونقوم بالإجابة عنها في الاستوديو».
إلا أنّ البرنامج الثالث للإذاعة هو الذي يحقق النجاح الأبرز، لكونه برنامجاً هزلياً يسخر فيه ممثلان من الهموم اليومية في حلب.
من جهته، يروي أبو حسن، العامل في الإذاعة، أنّه «يخاف الناس إجمالاً من التحدث إلينا، لأنهم يتنقلون في الأحياء التي يسيطر عليها النظام، ويخشون أن يتم التعرف إلى أصواتهم». ويضيف «إنّ مقاتلين معارضين هددونا بالسجن الأسبوع الماضي لأننا كنا نجري مقابلات في الشارع. اتهمونا بأننا مخبرون للنظام».
(أ ف ب)